المشترك بين الإمارات واليابان والصين

ت + ت - الحجم الطبيعي

تخوض البشرية غمار منافسة معرفية تقنية لم تعهدها من قبل، والشاهد أن اقتصاد المعرفة أصبح حقيقة تؤكد مركزية الإنسان في معادلة التنمية الشاملة، كما تعيد النظر في كامل الاعتبارات التقليدية التي ارتبطت دوماً بمفهوم الريع القادم من التعدين بأنواعه، أو اقتصاديات النفط والغاز، على أهمية هذا الدخل الاستثناء وحيويته في تأمين منصة انطلاق مؤكدة لتنمية ناجحة.

وهنا، ما زلت أتذكر مفاوضات بناء «فندق عدن» ذي الخمس نجوم، من قبل شركة فرنسية عام 1979، وكيف أننا كمفاوضين يمنيين مع الجانب الفرنسي، لم نصدق أنهم سينجزون العمل خلال سنتين..

ويشمل الإنجاز الفندق كاملاً، بالإضافة إلى عمارتين سكنيتين خصصتا لعمال الفندق.

يومها سمعت شخصياً وآخرين عما يسمى بطرق التنفيذ الجديدة، لكننا جميعاً لم نتخيَّل أن هذا الأمر يعني ببساطة تحويل موقع العمل إلى مصنع صغير، ينتج الخرسانات والقوالب الجاهزة، وينجز 240 عموداً خرسانياً تغوص في أعماق الطين البحري المالح، وصولاً إلى آخر منطقة صخرية متينة مهما كان عمقها.

ذلك المصنع الصغير الذي أقيم خصيصاً لغرض بناء الفندق، كان استثماراً بحد ذاته، وكان له أن يخدم مشاريع البناء الجديدة واحداً تلو الآخر.

أتذكر اليوم ما كان عليه الحال في ذلك الزمن من تسعينيات القرن المنصرم، وبعد أن تطورت طرق التنفيذ للمشاريع لتصل إلى ما أراه ماثلاً أمامي في مدن الإمارات العربية المتحدة، التي تتناسل فيها الأبراج بين عشية وضحاها، لتثبت أن العالم وصل إلى مستويات غير مسبوقة في تنفيذه المشاريع الإنشائية بأنواعها.

وأن مجرد توفر البيئة الآمنة والنظام والقانون، كفيل بتغيير وجه الحياة وتأمين مئات المليارات التي ستتدفق علينا من كل حدب وصوب.

وأذكر مثلاً هاماً في مدينة دبي، حيث تم إنجاز المترو خلال ثلاث سنوات فقط، وهو مستمر الآن في إضافة خطوط جديدة.

قد يتحجج البعض بالتمويل، متناسياً أو غير مدرك أن المال يتوفر إذا تأمَّنت بيئة الاستثمار والحصانة القانونية المقرونة بالشفافية الإدارية، وإشراك المواطنين في إصلاح دنياهم.. وهذه بجملتها تشكل المقدمات الحاسمة لقرارات الدول الكبرى والشركات العابرة للقارات، وكبار المستثمرين في العالم، ممن يحددون مناطق العمل، وينطلقون صوب آفاق تتجاوز المكان المحدد لتشمل أقاليم بكاملها، بل العالم بأسره.

أذكر بهذه المناسبة واقعة تستحق الاستعادة، فقد كنت ولفيف من الإعلاميين في زيارة لليابان عام 1997، بدعوة من شركة «سوني» العالمية، وفي لقاء لنا مع المدير العام للشركة، سألته عن الخيارات والبدائل الجديدة أمامها في تجارة الترانزيت لمنتجاتها الكثيرة، وهل من المحتمل أن تعمل على خط المشاريع المعلنة لإيجاد مناطق حرة إقليمية جديدة خارج دبي؟

كان رد المدير: لا نفكر خلال العقدين القادمين في استبدال دبي بأي منطقة أخرى، والسبب أن دبي توفر لنا بيئة قانونية وإدارية مثالية، بالإضافة لبنية تحتية متكاملة.

هذا الرد المقتضب يتضمن إشارات ذات مغزى، ونحن هنا إزاء شخصية قيادية استراتيجية، تقود واحدة من أعرق وأكبر الشركات في العالم.

ذلك القول الفصل الذي قاله الرجل، سيتأكد تباعاً وعلى مدى عقد لاحق، لنكتشف معنى التنمية في عالم التكنولوجيا المتغيرة بترددات لا متناهية، ولنعرف معاً سر ذلك الشعار اللافت الذي قرأناه منذ تلك الزيارة البعيدة للمبنى الرئيس لشركة سوني، ومنطوقه المباشر: كيف تحلم؟

وحالما سألنا عن سر هذا الشعار، قيل لنا: كنا بالأمس القريب نخضع التكنولوجيا للقوالب النمطية، أما اليوم فإننا نُخضع القالب للمحتوى الوظيفي.

وهذا يعني أننا نلج عالماً جديداً يتجاوز كل ما كنا نعرفه ونتخيَّله.. نحن اليوم نحلم بما يتجاوز الخيال، ولهذا نعتبر الشعار قرين الفكر الإبداعي المنطلق دون حدود.

عندما أتذكر تلك الأقوال الوامضة في الذهن حد السطوع، أشاهد بأم عيني الترجمة الواقعية لها في الإمارات العربية المتحدة عامة، وفي دبي خاصة، فما كان بالأمس القريب بعيد المنال، أصبح اليوم حقيقة على الأرض، وما ينتمي لأحدث منتجات العلم والتكنولوجيا الذكية، يتحوَّل في دبي إلى حقيقة يومية ماثلة، وبيئة التفاعل الخلاق بين آخر الابتكارات وأحدث الأساليب، تبرر تماماً خيار العالَم المعرفي الرائي لدبي عام 2020، بوصفها الحاضن الأنسب للتنافس الدولي الكبير في العلم والتكنولوجيا.

تلك اللحظة في عمر الزمن تعني تماماً النجاح المقرون بتعمير وتهيئة البيئة القانونية والإدارية، القادرة على احتضان هذه المباراة الكونية الحرة، لنثبت لأصحاب النظريات القاصرة المُتخشِّبة، أن النجاح قرين الأحلام الكبيرة والهمم العالية والقبض على جمرة الاستحقاق.

التجربة الصينية الحاضرة تثبت لنا ذلك أيضاً، فالصين لا تنمو فحسب، بل تكبح فرط النمو احتساباً للتوازن الاقتصادي الدولي، وفي أساس جغرافيتها الطبيعية التي تصل إلى 7 ملايين كيلو متر مربع، تحتضن ربع سكان العالم، وتفيض بالخيرات الزراعية والصناعية على العالم الكبير، لكنها إلى هذا وذاك تتطلَّع لعمل متقدم على خط تكنولوجيا النانو المستقبلية، فيما تشيد أكبر بنية تحتية شهدها العالم، في تأكيد متجدد لمعنى الإرادة والعمل الجاد ومواكبة مستجدات العلم.

تلك الحقائق التي تجلّت في اليابان والإمارات والصين، تأكيد متجدد لأن التنمية والتطور ليسا قريني الريع والبركات الهابطة من سماء الوهم، بل العمل الجاد من خلال القبول الرائي، والمواظبة الصعبة لاستحقاقات العصر ومتطلباته.

 

Email