أميركا وتعويضات المظالم الكبرى

ت + ت - الحجم الطبيعي

عادت للصدارة من جديد، قضية تعويض سود أميركا عن سنوات العبودية والقهر والعنصرية، فقد نشرت مجلة أتلانتك مقالاً مطولاً يدافع عن الفكرة ويطرحها بقوة، فأعاد النقاش حولها، ولكنه نقاش يدور للمرة الأولى في الصحف الكبرى، وبمثل هذا الزخم.

ومسألة تعويض الأميركيين السود ليست جديدة، والمقصود التعويض عن قرون من العبودية، ثم عقود من الفصل العنصري والتمييز والاضطهاد، التي أدى استمرارها كل هذا الزمن، إلى ما آلت إليه أوضاع السود اليوم، لأنها أحدثت خللاً هيكلياً، وخلقت عنصرية مؤسسية. إن قضية التعويض من القضايا التي تتجاهلها الحكومة الأميركية تماماً، وترفضها أغلبية الأميركيين البيض من أغلب التيارات السياسية، فبدلاً من مناقشة عدالته كونه مطلباً، يعامل الموضوع طوال الوقت وكأنه شطحة لأكثر الراديكاليين تطرفاً.

وترى الأغلبية أن مشكلة السود تتلخص في اعتمادهم المفرط على الحكومة الفيدرالية، وأن الحل يكمن في اعتمادهم على أنفسهم، فلا بد من أن يشعر الرجل الأسود بالمسؤولية، فلا يترك أسرته تتصدع وتصارع الحياة وحدها بغيابه، ولا بد أن تحرص الأسرة على رعاية الأبناء لئلا ينجرفوا إلى الجريمة أو العلاقات الحميمية في سن المراهقة، التي تكون نتيجتها أطفالاً لا يستطيعون تحمل مسؤوليتهم في تلك السن المبكرة، لكن تلك المقولات التي صار يرددها حكوميون ورموز من كل التيارات السياسية، بل وبعض السود مثل الفنان المعروف بيل كوسبى، تتجاهل تاريخاً طويلاً له تأثير بالغ القوة، ما يجعل ما يقولونه ليس سبباً جوهرياً من أسباب تدهور أحوال الأميركيين من أصل أفريقي.

فقد امتدت العبودية قرنين في أميركا، وهي تعني ضمن ما تعنيه العمل بالسخرة، أي ألا يتلقى العبد وجميع أفراد أسرته، أي أجر على الإطلاق مقابل العمل الذي يقوم به. وفي الولايات المتحدة كان السيد عادة يستنزف عبيده، لأن عقود الأجراء كانت تضع حداً لساعات عملهم، وبالتالي لم يكن أمامهم إلا العبيد لاستنزافهم حتى آخر رمق.

بعبارة أخرى، حين ألغيت العبودية، صار كل هؤلاء السود أحراراً، ولكنهم لا يملكون شيئاً على الإطلاق، ثم مرت عشر سنوات ذهبية، سميت عهد «إعادة الإعمار»، عاد بعدها الجنوب الأميركي بالذات لاستعباد السود من دون استخدام الاسم نفسه، وتفنن في اختراع كل الوسائل التي من شأنها إرهاب السود وإذلالهم وإخضاعهم، حتى تم تحويل الفصل العنصري إلى نظام الدولة السائد بحكم القانون. وحتى الذين استطاعوا من السود العمل بجدية، خلال إعادة الإعمار وامتلك أرضاً، فقد تمت سرقتها منه أو ابتزازه وإرهابه للحصول عليها. وقد وصل الأمر لقتل السود أو تعليقهم على الأشجار وجلدهم حتى الموت، ما أدى لنزوح جماعي للسود من الجنوب هرباً من الإرهاب والقتل،

لكن الحصول على السكن في الشمال كان أهم ما يكشف عن طابع العنصرية هناك، فقد واجه السود مقاومة غير رسمية شديدة، هدفها منع الأسر السوداء من شراء أو تأجير منزل في أحياء البيض. ولأن تلك المرحلة كان فيها الفصل العنصري قانونياً، فقد لعبت الحكومة دوراً في دعم ذلك التوجه، عبر القروض التي تقدمها لشراء المساكن، حيث ذهبت أموال تلك القروض للبيض وحدهم حتى نهاية الستينيات.

وبمجرد أن تقطن أسرة سوداء أحد أحياء البيض، تتبعها أسر سوداء أخرى، فيبدأ تلاعب سوق العقارات عبر تخفيض سعر عقارات الحي، فتدخل أسر سوداء أخرى، وتهرب الأسر البيضاء حفاظاً على أموالها التي استثمرتها في عقاراتها، حتى لو لم تكن تمانع في جيرة السود.

وبمرور الوقت يصبح الحي كله من السود، وتنخفض بشدة أسعار العقارات فيه، فتفقد الأسر السوداء استثمارها العقاري. لذلك، فإن قيم الإحساس بالمسؤولية ورعاية الأبناء التي يتحدث عنها البيض في أميركا، موجودة عند أولئك السود من الطبقة الوسطى، الذين اجتهدوا وادخروا مبلغاً لشراء بيت في منطقة تقطنها الطبقة الوسطى البيضاء، لكنهم بسبب العنصرية يفقدون استثمارهم فيصبحون ليسوا فقط فقراء وبيتهم ضعيف القيمة، وإنما يجدون أن عليهم تربية أولادهم وسط بيئة ووسط اجتماعي غير الذي اجتهدوا من أجل تحقيقه، فإذا كان هذا هو حال الطبقة الوسطى، فما بالك بحال الطبقة الفقيرة السوداء!

فهي أسيرة تماماً للعنصرية الهيكلية، من السكن للتعليم لكل نواحي الحياة، فعلى سبيل المثال، لأن ميزانية الأحياء هي التي تمول المدارس العامة، فإن الأحياء الفقيرة مدارسها دون المستوى، ما يقلص فرص الحراك الاجتماعي للفقراء.

فهناك عوامل هيكلية مركبة، ظلت تتراكم داخل المجتمع الأميركي ولا تزال، هي المسؤولة عن أوضاع السود تحديداً. ولذلك يطالب بعض أصحاب الضمائر الحية المؤمنين حقاً بحقوق الإنسان، من البيض والسود معاً، بضرورة تعويض السود عما وقع عليهم من ظلم تاريخي على الأرض الأميركية.

والتعويضات ليست بالمناسبة اختراعاً من جانب سود أميركا، فهي قضية طرحها بنجاح آخرون قبلهم، وكانت على رأسهم إسرائيل، فتعويضاً عما فعلته النازية باليهود، حصلت إسرائيل عام 1964 على تعويضات وصلت إلى 4 مليارات دولار، من ألمانيا الغربية.

وإلى جانب ذلك، مولت ألمانيا وقتها ثلثي الأسطول التجاري الإسرائيلي، وثلث شبكة الكهرباء، ونصف شبكة السكك الحديدية الإسرائيلية، ثم عادت ألمانيا الاتحادية، وعقدت اتفاقاً آخر مع إسرائيل في 2013، تدفع بمقتضاه 800 مليون يورو، ولكن هذه المرة للناجين من المحرقة.

لكن التعويض مرفوض، لأنه يهز صورة الإمبراطورية الأميركية الرائدة في العالم!

Email