توجد في المجال الضيق نسبياً، الذي تشغله الأندلس في جنوبي إسبانيا، ثلاث من أروع مدن العالم، هي إشبيلية وغرناطة وقرطبة. وقد حققت كل مدينة من هذه المدن استقطابها الخاص للشهرة لدى السياح، من خلال الحكم العربي لها، وذلك رغم أن قرطبة التي كانت عاصمة الأندلس في وقت من الأوقات في ظل الحكم الإسلامي، هي التي تعزف بالنسبة للعرب والمسلمين على الوتر الأكثر شجناً وإيحاء بالحزن والفقدان. ولا تزال قرطبة حتى الآن مدينة يهيمن على آفاقها مسجدها الجامع الكبير، وتحتفظ أكثر من منافستيها بالطابع العربي الأصيل على نحو ملحوظ.
«رومانية ومورسكية» بهاتين الكلمتين اختصر الشاعر مانويل مشادو مدينة قرطبة، ومن خلال هذا الجمع لحضارتين عظيمتين، تتراءى للعين على الفور عندما يرنو إليها المرء من الضفة الأخرى للوادي الكبير، وهو النهر ذو الشهرة الفائقة.
والجسر الروماني بعقوده الستة عشر المنتصبة عبر ضفتي النهر، سمح في العهود الرومانية للسفن العملاقة بالمضي وصولاً إلى المدينة نفسها الواقعة على بعد 200 ميل من البحر. واليوم، فإن المياه السطحية كمياه الغدير، تتدفق عبر عقود الجسر، وتدور حول جزر صغيرة لا تزال باقية على بعضها طواحين عربية قديمة. وهذا ليس إلا الخلفية لتكوين رائع يشكله الجسر الروماني الذي يفضي إلى الأسوار الشامخة المحيطة بالمباني الممتدة عبر ستة هكتارات، والأفنية التي تشكل مسجد قرطبة الجامع الكبير.
وكانت الجزيرة الأكثر إيغالاً نحو الشمال، والتي تكسوها الخضرة، تضم في وقت من الأوقات الساقية الكبيرة التي كانت تروي حدائق القصر الذي يقع إلى جانب المسجد. وتفيد القصة الشائعة أن الساقية قد أزيلت بناء على طلب الملكة إيزابيل في القرن الخامس عشر، لأن صوتها المتناهي بلا انتهاء كان يؤرقها ويحرمها النوم. أما الجسر الروماني فقد استمر في القيام بدور محوري في تاريخ المدينة، على امتداد قرون الحكم العربي.
وقد قام العرب بترميم هذا الجسر للمرة الأولى في القرن السابع، وخلال تاريخ المدينة المضطرب غالباً ما علقت عليه رؤوس أعداء قرطبة أو رؤوس أولئك الذين أخفقوا في محاولتهم للاستيلاء على السلطة.

يمتد تاريخ قرطبة واسمها إلى عهود فينيقية موغلة في الغموض، وفي وقت لاحق، وعلى وجه التحديد في عام 237 ق. م، أضافها إلى الإمبراطورية القرطاجية هميلكر باركا، والد هانيبال. وفي عام 152 ق. م. دخلها الرومان ومنحوها مرتبة المستعمرة الرومانية الأولى خارج إيطاليا، وظلت تحت حكمهم على امتداد ستة قرون ونصف، وكانت مسقط رأس عدد من المشاهير في ذلك الزمن، ومن بينهم الفيلسوف سيليكا الذي ينتصب تمثال له إزاء إحدى البوابات التي تتخلل أسوار المدينة.
وقد بدأ الحضور العربي في إسبانيا بعمليات العبور التي قام بها طارق بن زياد وموسى بن نصير من شمال أفريقيا، وكانت الانتصارات التي أحرزاها مدوية، وبعد أن انتصر طارق بن زياد على الملك رودريك القوطي في معركة قرب قادش، تحمس موسى بن نصير بفعل انتصارات القائد الذي بعث به، فاقتحم مدينة إثر أخرى، وتمكن من الوصول إلى جبال البرينيه. وتمت عملية العبور العربية الأولى في عام 711، وبحلول عام 719، كان قائد عربي قد فتح ناربون في جنوبي فرنسا.
ورغم أن الفتوحات العربية كانت سريعة ومتألقة، فإن سيطرة العرب على البلاد لم تكن مستقرة تماماً، وبالنسبة للقائدين اللذين استهلا هذا الحشد من الفتوحات، فإن أحدهما مات مغموراً، والآخر توفي في السجن (رغم أن اسم طارق بن زياد لا يزال ينسب إليه حتى اليوم «جبل طارق» الذي يسيطر عليه البريطانيون).
والرجل الذي قدر له أن يرسي الأساس بحضور عربي دائم ومبدع في إسبانيا، هو عبد الرحمن بن معاوية، حفيد الخليفة الأموي هشام، وقد جاء ظهوره في إسبانيا نتيجة لسقوط الأمويين في الشرق العربي، وصعود نجم العباسيين. وفي رحلة هرب دراماتيكية من العباسيين، انطلق عبد الرحمن الذي كان آنذاك في التاسعة عشرة من عمره، هارباً بالسباحة عبر نهر الفرات، وصحبه في رحلة الهرب تلك أخوه وتابعه بدر. وقد نادى عليهم العباسيون داعين إياهم للعودة على ألا يلحق بهم أي أذى، فاستجاب الأخ الأصغر للنداء وعاد، وفي التو تم ذبحه، بينما أكمل عبد الرحمن وبدر هربهما ووصلا بالفعل إلى شمال أفريقيا.
وبعد أن بعث عبد الرحمن بدراً أمامه لجمع الدعم ضد الوالي العباسي الحاكم يوسف الفهري، نزل عبد الرحمن للمرة الأولى إلى الشرق من ملقة عند المنتجع السياحي الحالي المعروف باسم المونيكر، وهزم يوسف الفهري تحت أسوار قرطبة. وفي ذلك المساء، أعلن ذلك الرجل الذي هرب من المذبحة العباسية نفسه حاكماً للأندلس، أمام الناس الذين تجمعوا للصلاة في المسجد الجامع الكبير. كان ذلك في عام 756، وقدر لعبد الرحمن أن يمضي جانباً كبيراً من سنوات حكمه الاثنتين والثلاثين في تدعيم الإمبراطورية التي أنشأها، وجعل قرطبة مدينة جديرة بالحكم الأموي في إسبانيا.