عوالم العلاقة بين الحيوانات والبشر

ت + ت - الحجم الطبيعي

القراءة الحيوانية للعوالم البشرية، ذات صلة بعيدة الغور بالآداب والممارسات الإنسانية القديمة، منذ الطواطم الأولى التي كانت تُمثل قيمة روحية ودلالية وميتافيزيقية، في حياة البدائيين الذين تأسّوا بالأنواع الحيوانية التي يعرفونها، وخاصة ذات الفائدة الكبيرة في حياتهم. كما لجأ البعض إلى تعويذات خرافية مقرونة بالحيوانات الغامضة وغير الأليفة.

وسنرى أن علاقة الحيوانات بالبشر تتخطَّى الأبعاد الماورائية الخيالية، إلى مناطق أكثر جذرية في تماسها المباشر مع حياة الناس. والشاهد ما يذهب إليه العلامة ابن خلدون في مقارباته المُبكرة والمُتفردة، حول تشابه البشر مع الحيوانات في البيئات المتشابهة، فحيوانات المدن الأليفة الكسولة كثيرة الاعتلاف، تُشابه سكان المدن المترفين المُنعَّمين، ويتشاركان معاً في الدعة والهدوء، وقلة الحيلة، والضعف الجسدي، وفي المقابل، تتشابه حيوانات البراري مع سكانها الموصوفين بالذكاء والحذر والحذق، والقدرة على الكر والفر، والرشاقة المقرونة بالقوة الجسدية.

وقد تأكد حقاً أن سكان البوادي يتمتَّعون بصحة قياسية، لأنهم يأكلون من تلك الدواب التي تقتات على الأشجار الدوائية الصحراوية والجبلية، في بيئات تخلو من الرطوبة والملوحة، وتتَّسم بالجفاف والتقلُّبات المناخية اليومية بين ساعات الليل والنهار.

تابعت مرة حديثاً لمُعمَّر تجاوز المئة عام، وكانت المفاجأة أنه قال إن غذاءه اليومي يتكون من لحوم الأغنام وألبانها، وعندما سئل: وما أهمية هذا النمط الغذائي المحدود في حياتك؟ قال ببساطة: لأن هذه الأغنام وحليبها دواء لكل داء. فتأمل عزيزي القارئ.

وقد لاحظ العرب قديماً ميزة لحوم وحليب الإبل، فهذا الكائن الصحراوي فريد المثال.. ليس في هيأته وصبره البالغ وقوة تحمله فقط، بل في كونه مصدراً للعافية الدائمة، فمن المعروف أن لحومها تخلو من المواد الضارة، وفي حليبها منظومة واسعة من المواد المفيدة للصحة، بل إن العرب قديماً كانوا يستخدمون مخلفاتها في معالجة الالتهابات الباطنية والخارجية.

وقد قرأت في كتاب "تسهيل المنافع في الطب والحكمة" ذلك التوصيف الطريف العجيب لعالمي الحيوانات والنباتات الدوائية، والتي يتربَّع في القلب منها كامل النباتات الاستثنائية في فائدتها، كالصبر والمر والثوم وأنواع من البقوليات، كما قرأت عن مركزية العسل في الدواء والتشافي، وكذلك سلسلة من الأنواع الحيوانية، في مقدمها الزواحف البريَّة.

ولعل الضَّب الصحراوي يمثل حالة فريدة في هذه المنظومة، فالمعروف أنه كائن يتمتع بقوة جسدية فائقة، وبسلوك نبيل في علاقته بالغذاء، فهو لا يقتات إلا على الأعشاب البرية الصحراوية الدوائية، ولا يشرب الماء البتَّة، وإذا أُرغم على شرب قطرة من ماء.. يموت فوراً! وقد لاحظ عرب الصحراء الصفات الفريدة للضب، فأكلوا لحمه، واستأنسوا بفوائده الدوائية التي لا نعرف عنها الكثير.

وإذا انزحنا بالكلام إلى مناطق أُخرى، سنرى في كتابات "السهروردي" و"ابن المقفع"، أبعاداً أخلاقية وقيميَّة، كما هو الحال بالنسبة لكتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفع، و"رسالة النمل" للسهروردي.. وقد جمحت الآداب الإغريقية البيزنطية في مضاهاتها بين البشر والحيوانات، حتى إنها اخترعت الكائن الأسطوري "القنطور"، المكون من جسد حيواني ورأس آدمي، في رسومات عصر النهضة الأوروبي

. في دهاليز مراكز البحث الغامضة، قد تفاجئنا ذات يوم بكائنات تجمع بين الخصال والأشكال الآدمية الممتزجة بخصال وأشكال حيوانية، حتى تؤذن هذه الثنائية التفارقية بصاعقة أخلاقية، ما أسماه ابن كثير بداية النهاية للساعات الصغرى.. يوم تأتينا دابة على الأرض تكلم الناس بلسان مبين، وتحذرهم من مغبة التمرُّد على النواميس الإلهية الناظمة للكون.

لقد كان الإمام محمد بن محمد حامد الغزالى سبَّاقاً في استقراء الثنائية الحيوانية والإنسانية في الذات الآدمية.. في كتابه "كيمياء السعادة"، والذي تحدث فيه عن الطبائع الناسوتية الآدمية، المقابلة للطبائع الحيوانية البهيمية، بوصفهما متداخلين في الذات البشرية التي تتأرجح بين المستويين..

وتتقلَّب في معارج الحقيقتين المتضادتين، وتُناجز مشقَّة هذا التأرجح والتقلُّب، فطوراً تتوه في عوالم الوحشية والافتراسية والغضبية، وطوراً تحلق في هواء المعاني لتتناغم مع الجبر الإلهي المسطور في الخيار والاختيار، فتنال السعادة بقدر انتظامها في ناسوتية الناسوت، وإنسانية الإنسان.

هذه الحقائق تتجلَّى في عالم اليوم، كما كانت حاضرة منذ قابيل وهابيل، والمأفونون الافتراسيون المتوحوشون تجاوزوا حدود الافتراس الحيواني القائم على معنى الضرورة والبقاء، ليمارسوا إبادة لنوعهم البشري، وقد كان أحد الفلاسفة مصيباً عندما وصف إنسان التاريخ بأنه "الكائن الوحيد الذي يُبيد نوعه كما لا يحدث في عالم الحيوان".

 

Email