استعادات وامضة لحقائق قاهرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تلك هي الصفة الوحيدة القادرة على تبيان كامل المعطيات الناشئة في المنطقة العربية، فما حدث على مدى السنوات الثلاث الماضية ينمي جوهراً وأصلاً لما أسميه بفقه التاريخ ونواميسه العاتية. فالتاريخ يجري على نحو موضوعي، ولا يُعوِّل على رغباتنا وحساباتنا القاصرة، وهذا بالضبط ما حدث حصراً مع سلسلة الأنظمة العربية التي تهاوت تباعاً، وعطفاً على الصدفة التونسية الغرائبية التي دشَّنها الراحل الشهير "بوعزيزي". ولقد بدت الصورة يومها غاية في السريالية، والواقعة المداهمة بدت مُفارقة لكامل التوقعات الافتراضية، فيما كانت الحقيقة الشاخصة عاصفة عاتية، كما لو أنها تراجيدياً إغريقية سطرها المُدوِّن الشهير "هوميروس".

لكن الآمال العريضة والتفاؤلات بمستقبل زاهر، تحولت بين عشية وضحاها إلى معركة حامية الوطيس، وتساقط الناس فيها تحت حوافر الأشاوس من الدهماء، بالإضافة لغلاة أُمراء الحرب الجُدد، الذين سرعان ما تربعوا على قمة الموجة العاتية، وهم يطفون فوق سطح العاديات، وبالمقابل كانت الأجندات الإقليمية والدولية حاضرة بقدر الإسفنجة المنخورة، والفراغات الناشئة، بل والاستيهامات التي فاقت كل حدٍّ وحدود.

حدث كل هذا الأمر في العالم العربي، خلال ساعات وأيام وأشهر معجونة بالمفاجآت، وكان ما كان، ممَّا أصبح معروفاً ومسطوراً في سجل التاريخ. سقطت أنظمة عربية بكاملها، وتباينت موديلات الانهيارات، لتنكشف عن خصوصيات عربية. في تونس سرعان ما ترك الرئيس البلاد مطارداً بفوبيا مرضية لم يستطع المراقبون تحليل أسبابها العميقة حتى الآن..

وفي اليمن تخلَّى الرئيس عن السلطة مقابل ضمانات محددة، ومشاركة حزبه في التشكيل الحكومي، مُتمنطقاً الحالة المعتزلية اليمانية الرائية لمنزلة بين المنزلتين، فما لا يُدرك كُلُّه لا يُترك جُلّه. وبالمقابل بدت المعارضة اليمنية بطيوف ألوانها البنفسجية، أكثر تسامحاً وقبولاً بالتعايش الملغوم مع الأغيار، بل أن السلطة السابقة استنسخت نفسها ضمن موديل يماني فريد الماثل في العالم العربي. وفي ليبيا انتهت ملحمة القذافي الشخصية نهاية درامية خارقة للعادة..

وهكذا أصبح القذافي خارقاً للعادة في حياته المثيرة للجدل، ومماته السيزيفي المرعب، وفي مصر تخلَّى الرئيس الأسبق حسني مبارك عن السلطة دون قيد أو شرط، فكانت النتيجة محاكمة ألفية مستمرة إلى ما شاء الله. لكن خلفه الواقع في ذات المصيدة مازال أيضاً رهن محاكمة ماراثونية لا تؤجلها سوى الأحوال الجوية السيئة، فيما تمور البلاد وتعتمل بالكثير من مفردات الحراك القابل لكل الاحتمالات.

لقد سالت الدماء هنا وهناك، وظلت المحنة العربية مُستعصية على الحلول الجذرية، فيما تطاولت الآلام السورية في مربع البؤس، وتبارت القوى الكبرى عطفاً على ما يجري هنا، واستخرج الكرملين من إضبارة صبره المديد الكثير من السهام والسكاكين، لنشهد عالماً يُجدد الحرب الباردة بصيغة أكثر تراجيدية وعنفواناً.

كل ما حصل في المنطقة العربية ينتمي كما أسلفت لناموس التاريخ وقوانينه القاهرة. لكنه يكشف أيضاً العجز الكبير الذي وصلت إليه بعض الأنظمة العربية التي اعتدت بالقوة المجردة، والإعلام التجميلي المتباعد عن هموم الناس ومشكلاتهم الحياتية، بالإضافة إلى انتشار دوائر الفقر الأسود، والإحباطات الشبابية الواسعة، والحيرة المستديمة للنخب السياسية والثقافية، ومتاهة الانتلجنسيا الفاقدة للحيلة والفتيلة، وحالة التوسل الدائم لرضى الكبار وقبولهم الناجز بمن أسموهم (الأصدقاء المُستبدين)، ودونما اعتبار لعوامل الداخل العربي ومتغيراته الموضوعية.

لقد بدأت الدراما منذ أن انحدرت الطبقة الوسطى العربية إلى قاع الفقر، وظلت تُغالب وعيها المكسور، حتى التحق قطاعات من تلك الطبقة الضامنة بالرثاثة الحياتية، فتغيَّرت أفئدة الناس وعقولهم، وبدا النظام العربي خصماً عنيداً لأحلام الناس وآمالهم، بل مجرد توقهم لحياة بسيطة متوازنة.

لقد شكَّلت تلك المثالب مُقدمات كبيسة لما آلت إليه الأمور لاحقاً، ومن غرائب القدر أن بعض تلك الأنظمة العربية اعترف بالإخفاقات والعيوب، ولكن في الوقت الضائع، وكانت من سحريات القدر أيضاً أن يتحول ذلك الاعتراف الشجاع إلى تنازل وتسليم ضمني بالسقوط الحُرْ، بدلاً من أن يكون سبباً للإصلاح، وأتذكر بهذه المناسبة ما كان من أمر الرئيس الصومالي الراحل محمد سياد بري الذي سبق الجميع في تنازله الشجاع الذي انقلب عليه فوراً..

وذلك في ثمانينيات القرن العشرين المنصرم، عندما جمع قطاعاً واسعاً من جماهير العاصمة مقديشو في الملعب الكبير للعاصمة، ليعدهم جميعاً بإصلاحات جذرية في النظام السياسي، لكن ذلك الوعد تحول إلى سبب لثورة شعبية عاتية اقتلعت النظام من جذوره، وليتها بقت عند ذلك الحد، فما حدث بعد ذلك تجاوز سقوط النظام، ليؤدي إلى انهيار الدولة بتمامها وكمالها، وانكشاف البلد على أُمراء الحرب الأهلية، الذين كانوا وما زالوا يمثلون العقبة الكأداء في سبيل استعادة الدولة الضامنة للتوازن المجتمعي.

أوردت النموذج الصومالي بوصفه الحالة الفولكلورية البائسة لمصائر الثورات والانقلابات، وهذا ليس أمراً جديداً في التاريخ، ولا هو لصيق الحالة العربية فقط، فقد شهد العالم الواسع ثورات تاقت للانعتاق من المظالم والجور، لكنها وقعت في مصيدة القتلة الاعتياديين، والمجرمين المأفونين.

حدث ذلك أثناء الثورة الفرنسية الكبرى، حيث تحول قائد الثورة روبسبيير إلى مجرد قاتل محترف يجز رؤوس البشر بالمقاصل لمجرد الاستيهام، كما حدث الأمر ذاته في الثورة البلشفية الروسية ضد النظام القيصري، حيث تحول عرابو النظام الجديد إلى استئصاليين مهووسين بالقتل..

وحدث ذات الأمر وفي أُفق شعوبيٍّ عامِّي في الثورة الصينية الكبرى ضد نظام الكومنتانغ، حيث باشر فلاحو منطقة خونان الزراعية مترامية الأطراف قتلاً مجانياً ضد الإقطاعيين الزراعين الصينيين، وكل ذلك تمَّ خارج الذاكرة القانونية، وباعتماد الأعراف الثورية المُتطيِّرة. وفي أثناء الثورة الخمينية في ثمانينيات القرن المنصرم تم إعدام عشرات الآلاف من المواطنين الإيرانيين بحجة ولائهم لنظام الشاهنشاه.

سردت هذه الوقائع للتدليل على أن الثورات والانقلابات تنطلق من حقائق موضوعية، لكنها لا تصب في المجرى الإنساني ذاته الذي تاق إليه الحالمون المتفائلون، خاصة إذا انفلت العيار، وأصبح الدهماء من المنتمين للرثاثة الحياتية سادة الموقف، وأُصيب الجميع بحمى التداعي مع جنون المعصرة الثورية التي لا تفرق بين البذور والقشور.

السنوات الثلاث التي مرت على المنطقة العربية ما زالت حُبلى بالجديد، والزمن المتغير ما زال قابلاً لمزيد من المتغيرات. هذه الحالة بالذات بحاجة إلى إدراك أهمية استباق المتغير بتدابير تعالج جوهر الداء، وتبحث عن منابع المحنة.

Email