فيروسات الإرهاب و«التطعيم» الفكري

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يزال ملف الإرهاب من أعقد وأخطر الملفات التي عرفتها الدول، ومن أكثر القضايا المؤلمة والمقلقة التي عانتها الشعوب، بغض النظر عن مصدر الإرهاب والمستهدفين به، ذلك أن هذا الداء كما أجمعت على ذلك الأمم من قديم وحديث، لا يختص بدين معين ولا ينحصر في قومية محددة، بل هو في جميع الشعوب، وقد يأتي من جميع أصحاب القوميات والديانات، مع الأسف.

أقول مع الأسف، تعقيباً على أصحاب الديانات، لأن المفترض في من كانت له صلة بالسماء أن يسمو على شحناء الأرض ويشيع السلام بين الناس، لا أن ينال من أمنهم ويروع صغارهم وكبارهم ويهدد استقرارهم، ويحارب سلمهم بدعوى الانتصار لله ونشر دينه ورسالته، وكأن رسالة السلام والأمن والأمان لا تستحق من هؤلاء إشاعتها بين الناس ولا الدفاع عنها، بل على العكس لا بد من تقويضها باسم الدين والتدين..

تفكير وأسلوب خاطئ بلا شك، وليس مجرد خطأ فحسب؛ لأنه متشرب بالخطيئة، كما أعتقد، مهما كانت مبرراته، وكيف يبرر لنفسه ذاك الذي يعتدي على حرمات الناس وأمنهم ليحملهم على أفكاره، ويسلبهم الحياة التي وهبهم إياها رب العالمين، وينصب نفسه وصياً على شرع الله تعالى، فيقضي على العباد مانحاً من شاء صكوك النجاة في الدنيا والآخرة، ويحجبها بالمقابل عمن يشاء!

أي مصيبة تلك التي يتدثر بها الإرهاب الدموي، حين يكون أمن الناس رهن إشارة عُصابيين موتورين لا يعرفون حلاً لمشكلاتهم الفكرية والسياسية إلا بالدماء وإزهاق الأرواح، وهم بذلك يختارون أسهل الطرق للتخلص من المعارضين لفكرهم، لا بالحجة والموعظة الحسنة والمجادلة كما هو منهج الوسطية والاعتدال في إسلامنا الحنيف، وإنما بالقتل والتخريب والتدمير والاستئصال.

نسأل الله تعالى أن يحمي وطننا الإمارات وجميع البلاد والشعوب من لوثة مثل هؤلاء المرضى، والشكر بلا شك موصول إلى حكومة الإمارات بأجهزتها الأمنية التي استطاعت أن تستبق خطوات الإرهاب بتجفيف ينابيعه، في مبادرة ذكية تعرف حجم الخطر المتربص بالشعب إن سمح لهذه الآفة بالتسلل إلى صفوف المجتمع، وكانت الدولة من الحكمة بحيث اتجهت إلى التعامل مع هذه الآفة وفق خطين متوازيين، أولهما ضبط الخلايا النائمة أو النشطة وتقديمها للقضاء العادل، وفضح مخططاتها التي ظهرت في التحقيق معهم، وثانيها العمل على نشر الفكر المعتدل الوسطي بين الناس، وتوعيتهم وحماية فكرهم من «فيروسات» التشدد، وهي تنطلق من قناعة أن الإرهاب العملي يبدأ من الفكر الإرهابي، وأن الفكر لا يجابه إلا بالفكر، والحجة بالحجة.

لكننا على يقين أيضاً بأن مكافحة الإرهاب لا يمكن أن تتم بين ليلة وضحاها، فهي عملية مستمرة ومتواصلة، تشترك فيها جميع القطاعات، لا سيما العاملة في الميدان الاجتماعي التربوي والتعليمي والوعظي والإعلامي.

وإذا كانت المسألة تهم المجتمع ككل، فلا بد من تضافر الجميع للعمل على حلها، فالتربية لا بد أن تضع في صلب مناهجها العمل على غرس الفكر الواعي المستنير والتدين الوسطي بين أبنائنا، وتقديم «تطعيمات» فكرية، إن جاز التعبير، لأجيالنا تكون كفيلة بصد الكثير من فيروسات التطرف التي يمكن أن يحملها هواء الاختلاط بالعديد من الثقافات والتيارات، عبر بوابات التواصل الاجتماعي وغيرها المفتوحة على مصراعيها. ولا بد أن يمتد هذا التحصين الفكري مع الشاب حتى صفوفه الجامعية، والتركيز على فترة المراهقة التي قد يستغلها بعض أصحاب الأطماع ليجندوا الشباب لمصالحهم.

وعلى الجهة الأخرى وخارج المؤسسة التعليمية، لا بد من الجهد الدؤوب للمؤسسات الدينية والوعظية جنباً إلى جنب مع المؤسسات الإعلامية، لبث أفكار الاعتدال في المجتمع وتعزيز معاني السلم الاجتماعي والتعايش وقبول الآخر، وفتح قنوات الحوار دون قيود، لا سيما مع الشباب، للتفكير بصوت مرتفع بعيداً عن الغرف المظلمة التي قد تكون مراتع مشجعة لنمو الطفيليات الفكرية الضارة.

هي جهود متعاضدة متضافرة، ترعاها الدولة بقيادتها الرشيدة لصيانة المجتمع من آفة الإرهاب العالمية، ونقل رسالة التدين المعتدل إلى العالم، بعد التشويه الكبير الذي لحق بها من قبل بعض المتشددين.

Email