أوهام الدولة الدينية العربية من منظور تاريخي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في أعقاب الانتفاضات العربية عام 2011، تجددت الدعوة إلى قيام دولة دينية في الفضاء العربي. وقد دعت إليها تيارات إسلامية قفزت إلى السلطة في كل من تونس ومصر. لكن البعد التاريخي فيها كان مغيبا أو مشوها بصورة متعمدة، بهدف تطويع الوقائع التاريخية لكي تتلاءم مع إسقاطات إيديولوجية ذات بعد سياسي آني، لا علاقة لها بالدين الإسلامي، وتتجاهل مسار التاريخ العربي في مختلف مراحله.

لقد قامت الدولة العربية زمن الخلفاء الراشدين، على قاعدة أن الخليفة هو من ناب عن الرسول في حماية الدين وسياسة الدنيا. فحصل تداخل واضح بين مفهومي السلطة والدولة، والعصبية القبلية والعصبية الدينية. ثم ترسخت دولة العصبية القبلية بالمفهوم الخلدوني، وتداخلت مع العصبية الدينية، فكانت المحصلة ولادة الدولتين الأموية والعباسية في مركز الخلافة، وسرعان ما انتشرت على نطاق واسع دول الأسرة الواحدة التي تجمع بين العصبيتين.

وبرزت مؤخرا الدعوة إلى الدولة الشوراقراطية التي تعتمد عصبية دينية منفتحة، في محاولة للتوفيق بين الشريعة الإسلامية والديمقراطية الغربية.

واستقطبت الدولة الطائفية في لبنان اهتمام عدد كبير من الباحثين، فقد نشأت في إطار نظام الملل العثماني الذي تميز بحرية ممارسة الشعائر الدينية لجميع الملل داخل السلطنة، ثم تطورت إلى طائفية متفجرة في إطار المشروع الاستعماري الأوروبي لتفكيك السلطنة واقتسام ولاياتها، وإلى طائفية مدمرة لعبت الدور الأساسي في تفجير المجتمع اللبناني.

كان النظام السياسي اللبناني النموذج الوحيد الذي بني على ركائز طائفية، ترسخت في البنى السياسية والإدارية والاجتماعية، وفق محاصصة علنية بين زعماء الطوائف. وهي تجربة فاشلة تماما، وتهدد بقاء لبنان، لكن عدوى الطائفية والمذهبية انتقلت إلى العراق وسوريا ودول عربية أخرى.

مسار التاريخ العربي يؤكد غياب الموروث التاريخي للدولة الدينية في المجتمعات العربية، وما كتب عليها كان مجرد تصورات نظرية غير مسندة إلى أنظمة قائمة على أرض الواقع العربي. فليست هناك دولة للمؤمنين المتدينين فقط دون المؤمنين من غير المتدينين، وليست هناك دولة يدير سياستها ويتولى السلطة السياسية فيها رجال الدين، ولديها حكومة دينية تمارس السلطة وفق رؤية دينية خالصة.

كما أن أحلام بناء دولة تجمع دينا واحدا أو طائفة واحدة، لم تكن حكرا على المسلمين، بل استخدمها مؤدلجون مسيحيون خاضوا حرب المائة عام بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا، ويدعو إليها اليوم مؤدلجون عنصريون يهود يحلمون بدولة إسرائيل اليهودية.

لم تتبن تلك الدعوات صيغة المساواة التامة بين المواطنين، وفق القاعدة الشرعية التي تقول بأن "الناس سواسية كأسنان المشط، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، بل تميز في ما بينهم على أساس الدين، والطائفة، والمذهب. وتبشر بدولة عابرة للحدود والأوطان، وبشعارات ديماغوجية لا يمكن تحديدها علميا كدولة الخلافة، والدولة الإسلامية العالمية. وليست لديها مؤسسات ذات خصوصية محلية، ولا مقولات عقلانية معلنة عن كيفية التطبيق العادل للشريعة الإسلامية، بل ظهر عكس ذلك تماما في مناطق هيمنة الداعين إليها.

ويصنف دعاة الدولة الدينية من يخالف تعاليم الشريعة وفق تفسيرهم الخاص لها، في مرتبة الكافر أو الملحد، فيعاقب بقسوة بالغة وفق نصوص وممارسات قديمة تجاوزها المصلحون الإسلاميون منذ عقود طويلة.

نخلص إلى القول إن ركائز الدولة الدينية افتراضية بالكامل، لأنها تقوم على تصور طوباوي لدور الدين في السياسة، وبناء مجتمع الأخوة الدينية المثالية، التي هي من صنع خيال ديني يبشر بمجتمع فاضل لا صراع فيه، ويستعيد أمجاد الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي. وهي نتاج أوهام طوباوية تريد إخضاع الواقع المعاش ليوتوبيا المجتمع الفاضل، والدولة العادلة، والحاكم المؤمن والمؤتمن على حماية الدين وسياسة الدنيا، على غرار الخلفاء الراشدين.

إنها وليدة مخيال ديني يستحيل تطبيقه في الواقع الراهن للمجتمعات العربية، وهي مجرد حلم تاريخي قديم لم يؤسس فعلا لأية دولة إسلامية في التاريخ العربي. فقد اعتمدت غالبية الدول العربية المتعاقبة، على الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع، واستفادت من القوانين الوضعية في إدارة شؤون المجتمع، ولم تسمح أي منها لرجال الدين بممارسة السلطتين الدينية والسياسية، حيث لا وجود لرجال دين، بل لعلماء دين وفق الشريعة الإسلامية.

وعند ولادة الدول العربية الحديثة في مرحلة الاستقلال السياسي، بدت على حقيقتها كدول تسلطية لا تمت بصلة إلى الدولة الدينية الافتراضية، وحافظت على كثير من أساليب القمع الموروثة من مرحلة الحكم العثماني، والسيطرة الأوروبية بأشكالها المتعددة، كالاحتلال والحماية والانتداب. واحتكرت القيادات السياسية السلطة في تلك الدول، وفرضت هيمنتها على مؤسسات الدولة، وباتت الركيزة الصلبة لنظام سياسي يخدم مصالحها بالدرجة الأولى.

وهي قوى سلطوية تعتبر نفسها فوق القانون وفوق الدولة التي كانت عاجزة على الدوام عن محاكمتهم، أو الحد من نفوذهم، أو معاقبتهم. ووظفت الطائفية والقبلية في الثقافة السائدة، كإيديولوجيا مجربة لتشويه الوعي الوطني والاجتماعي لدى الجماهير العربية.

وتعاملت الدول مع السكان كرعايا يتبعون زعماء القبائل والطوائف، وليس كمواطنين أحرار ينتمون إلى دولة عادلة تهتدي بتعاليم الدين، وتستفيد من تجارب الدول التي نجحت في مواجهة تحديات العولمة.

بيد أن الانتفاضات الشعبية لعام 2011 غيرت وجه العالم العربي المستكين لتعسف أنظمة تسلطية، ولم تنجح التيارات السلطوية الجديدة في فرض دول دينية تحمل أفكارا طوباوية. ولعبت مقولات الثقافة العقلانية والتغيير الجذري، دورا هاما في تعرية تلك الأوهام السلطوية التي تساعد على تجديد النظم السياسية القمعية، وكشفت زيف الإيديولوجيا الدينية والقبلية التي ما زالت تشكل العمود الفقري للنظام السياسي العربي، وتساهم في تزييف الوعي الوطني لدى غالبية الجماهير العربية.

ختاما، لم يعرف التاريخ العربي في جميع مراحله دولة دينية. فالفكر الإسلامي في زمن الدولتين الأموية والعباسية، وما أعقبهما من دول سلطانية ذات طابع إسلامي، كانت منفتحة دوما على القوانين الوضعية.

كما أن مقولة المستبد العادل أنتجت، على أرض الواقع العملي، دولة تسلطية تتمتع بصلاحيات مطلقة، دون أن تمارس العدالة الاجتماعية، مما يطرح تساؤلات منهجية أبرزها: هل هناك إمكانية حقيقية لقيام دولة دينية في عصر العولمة؟ وهل يتضمن مفهوم الدولة الدينية تطبيقا سليما لتعاليم الإسلام كدين ودولة؟ وهل أن الدولة الدينية هي البديل العقلاني للدولة الديمقراطية في عصر العولمة؟

Email