الفيدرالية اليمنية خيار العقلاء

ت + ت - الحجم الطبيعي

إعلان اليمن دولة اتحادية فيدرالية، خطوة تاريخية تعكس نضجاً سياسياً، وضرورة موضوعية، ومنطلقاً لمستقبل مغاير للماضي. فهذه الخطوة تحمل في طيَّاتها وتضاعيف مرئياتها، كامل المقدمات التي ستوصل البلاد والعباد إلى مروج المشاركة الواسعة الخضراء، وفضاءات الإنجاز التنموي المقرون بالميزات النسبية لكل إقليم من أقاليم البلاد، كما ستعيد الاعتبار للأقاليم اليمنية المُهمَّشة بفعل الفساد والتغوُّل، ومنطق الدولة القروسطية الضيق.

لقد أفلحت لجنة تحديد أقاليم الدولة في اختيار معايير تاريخية وجغرافية واقتصادية واضحة المعالم، فلم تُخل جذرياً بمكونات ما قبل وحدة مايو 1990، ولم تتجاوز منطق التاريخ والأنساق المتنوعة في عبقريتها، والمتكاملة في فضاء حضورها السياقي الجبري في المجتمع، ولم تقع في وهدة الاستنساب الخفيف، لإرضاء بعض الأطراف ضيقة الأفق، فكانت النتيجة إنجازاً ينقل اليمن إلى عالم جديد، ويسمح بتحقق المواطنة، بوصفها معيار هوية، وقيمة إنسانية مطلقة، وملعبا مفتوحا للمباراة الحرة، في ظل بيئة قانونية واجتماعية واقتصادية متوازنة.

هذا المنجز يرتقي إلى مستوى المِثَال، رغماً عن كثير من الآراء التي لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب. هذا المنجز مشروع عمل مؤسسي هيكلي، مفتوح للإبداع والاجتهاد والعطاء، وأتصور شخصياً أن اليمنيين وصلوا اليوم إلى ما كان منكورا قبل حين، وأنهم بهذه الأداة المؤسسية الدولتية العصرية، يستطيعون تحويل الأرض اليباب إلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار.

يحق لليمنيين إذاً، أن يفرحوا بالمنجز السياسي المقرون بالممكن السياسي العاقل، وأن ينصرفوا إلى المستقبل، تاركين وراءهم الماضي البغيض الذين أسهموا فيه جميعاً. فلقد آن الأوان لأن يتمتع الجميع بثقافة النسيان، والصفح والغفران، حتى ينالوا ما يستحقونه من حياة كريمة نظيفة، وأمامهم اليوم المعيار النمطي الهيكلي الذي يسمح لهم بالعطاء الحر، والفعل المؤثر.

الخيار الاتحادي بالصيغة الماثلة لا يعني نهاية المطاف، ولا يستبعد وجاهة الآراء الأخرى التي تميل إلى دولة اتحادية خارج نطاق الأقاليم الستة، والتي قد تكون اثنتين، أو أقل من ستة، أو أكثر منها.. فكل خيار من تلك الخيارات ينطلق من مبررات ومصوغات مقبولة، لكن التوافق سيد الموقف، وهو كما نرى توافق غالب، حتى وإن رفضه الحوثيون، وتحفظ عليه الاشتراكيون.

غير أن الفرق الجوهري بين موقف الاشتراكيين والحوثيين، يتمثل في قبول الحزب الاشتراكي بالعملية السياسية واستتباعاتها، حتى وإن تحفظ على صيغة الأقاليم الستة، والشاهد أن ممثل الاشتراكي الاستاذ أبوبكر باذيب وقع على الوثيقة النهائية، مستجيباً لدواعي الاستمرار في العملية السياسية.

لكن موقف الحوثيين اختلف جذرياً، فقد رفضوا التوقيع على الوثيقة النهائية، وقالوا بأن التقسيم المفترض لأقاليم الدولة الاتحادية يوزع البلد إلى أغنياء وفقراء، وذلك استناداً إلى تكوينات الأقاليم الريعية النفطية والغازية، وهما إقليما حضرموت وسبأ.. لكن هذه الحجة أقرب إلى التجريد غير الواقعي، لأنه لا اقتصاد ريعيا في اليمن يُعتدُّ به، بل إن القابليات التنموية في الأقاليم الستة المُعلنة تتجاوز بمراحل منطق الاعتداد بالنمط الريعي في إقليمي حضرموت وسبأ، فالمشكلة التنموية في اليمن نابعة من طبيعة النظام المركزي المتجهم، لا الافتقار إلى أسباب التنمية الأفقية الواسعة.

وما دمنا بصدد المقارنة بين موقفي الاشتراكيين والحوثيين، فلا بد من الإشارة إلى المحرك الجوهري لهذين الموقفين. فالحزب الاشتراكي اليمني يباشر حضوره في العملية السياسية، متخلياً عن أي شكل من أشكال السلاح، قابلاً بتبعات المباراة السياسية السلمية..

مُتجاوزاً تجربته التاريخية القريبة، كحزب حاكم توفَّر على الجيش والأمن والسلاح. وفي المقابل يتمسَّك الحوثيون بالميليشيات المسلحة التي تتجاوز مفهوم حمل السلاح السائد في اليمن، لتتحول تلك الميليشيات إلى قوة عسكرية منظمة ومدربة، ضمن أنساق نظامية كتلك التي تقدمها تجربة حزب الله في لبنان. وقد لاحظ المراقبون أن هذه القوة العسكرية المنظمة تخرج من تضاعيف أيديولوجيا دينية، مقرونة بالتعاطي مع العملية السياسية، ولكن دون الاتساق مع مقتضياتها العامة.

وهنالك بالطبع ميليشيات مسلحة تتبع حزب الإصلاح ذي التوجه الديني السياسي، ولكنها لا ترتقي تنظيمياً إلى مستوى نواة الجيش النظامي الذي يتبلور على الأرض بالترافق مع حزب "أنصار الله".. الواجهة السياسية للحوثيين الإماميين، القائلين بالحاكمية السلالية.

من هنا يمكن استيعاب معنى الازدواجية في موقف الحوثيين.. القابلين شكلاً بالانخراط في العملية السياسية، والباقين على مشروع مناجزة فكرة الدولة المدنية الجمهورية، بحثاً عن دولة الإمامة العلوية، الغائبة حتى اللحظة.

مشكلة الحوثيين في المعادلة اليمنية، تكمن في المسافة بين السياسي والواقعي، فالقول بخيار العملية السياسية الراهنة وثوابتها الدولتية، يتناقض تماماً مع خيار التوسع، وتحويل الحزب السياسي المُعلن (أنصار الله) إلى كيان حقيقي داخل الدولة.

ومن هنا تنبع المشكلة الحقيقية التي يواجهها الحوثيون، فهم بين خيار من اثنين: إما القبول بكامل إكراهات العملية السياسية والاتساق معها، ولهم أن يعلنوا عن برنامجهم السياسي ولو كان بمقاسات إقامة نظام إمامي ملكي.. أو أن يستمروا في التناقض بين الخيار السياسي والاشتغال على تكوين قوة حقيقية منظمة ومُناجزة للدولة، وفي هذه الحالة سيجدون أنفسهم في مواجهة مؤكدة مع المزاج العام للجماهير، قبل أن يواجهوا الدولة.

مقطع القول أن توافق شركاء الحل السياسي على نموذج الدولة الاتحادية، توافق شامل باستثناء الرفض الحوثي المبدئي لها، والتحفظ الاشتراكي الذي يقف في منزلة وسطى، فالاشتراكي يتمسك بخيار الإقليمين، لكنه يسير مع ركب الأغلبية، وينتظم في العملية السياسية، باتساق كامل مع أدواته وخطابه، فيما يتمسك الحوثيون بثنائية المُعْلَن السياسي والواقع الفعلي على الأرض.

Email