تحديات غير مسبوقة في اليمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتوهَّم من يعتقد أن هنالك إمكانية لإصلاح حقيقي وجذري في اليمن، طالما كان السلاح متاحاً للمليشيات، أياً كان اسمها وصفتها، فالقاسم المشترك الأعلى بين فرقاء السلاح غير المؤسسي، وغير المشروع، وغير المنضبط، هو أنهم جميعاً ضد مشروع الدولة، بل ويرفضون وجودها من حيث الأساس. وقد رأينا مثل هذه الحالة، وعلى مدى عقدين من الحرب الأهلية في الصومال الشقيق، حتى أصبحت شريعة الغاب سيدة الموقف، وأصبح حلم استعادة الدولة أمراً عزيز المنال.

في الحالة اليمنية، المعنيون بتدمير الدولة هم تجار السلاح المعروفون بأسمائهم وصفاتهم، كما المليشيات المسلحة تحت مختلف المسميات القبائلية والحزبية والأيديولوجية، إضافة إلى حملة المباخر من موزعي صكوك الغفران الأرضي والسماوي.

لا تستطيع أي دولة في العالم تحقيق دورها المركزي في تأمين السلم الاجتماعي، وهي تتغاضى عن وجود مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة في أيدي المليشيات المسلحة، التي تنطلق من ولائها للأفراد، واستيهاماتها السياسوية والأيديولوجية القاصرة، ولا تستطيع الدولة تحقيق وظيفتها المركزية في تأمين السلم الاجتماعي، وهي تباشر أي شكل من أشكال الانتقائية في تحديد معالم الجغرافيا المليشياوية المسلحة، ولهذا كان من أوجب الواجبات الذهاب مباشرة إلى نزع السلاح من المواطنين، يتساوى في الأمر الوزير والخفير، الشيخ والقبائلي، السوي والمعتوه. ما يجري في اليمن ينذر بالعواقب الوخيمة إن استمرت مليشيات "الولاء والبراء" في نشر السلاح، وتجنيد الشباب الخاضع لغسيل دماغ منهجي، تارة باسم الدين، وأخرى باسم العصبية الجاهلية.

السلفيون والحوثيون والقبائليون المنخرطون في التيه معنيون بهذا، والدولة في مقدمة الركب المسؤول عن محنة السلاح المنفلت، والنخب السياسية المتشاركة في الانتقال السلمي وفق المبادرة الخليجية، معنية بتحديد مواقف واضحة مما يجري على الأرض، فإما الفعل الناجز، وإما التخلِّي الشجاع عن المشاركة.

تجربتان هامتان في التاريخ المعاصر، تثبتان أنه إذا توفَّرت الإرادة السياسية لدى الدولة فإن ما يبدو مستحيلاً لدى البعض، سيتحول إلى مناسبة استثنائية لمنجز عظيم، يغير وجه الحياة. وسأفرد هاتين التجربتين، لنعلم علم اليقين أن الأوضاع في اليمن محكومة بافتقاد واضح للإرادة السياسية الناظرة إلى أهمية وجوهرية إجراء جراحة مؤلمة، حتى تتم استعادة الدولة المخطوفة من قبل حفنة اللصوص، وهم تحديداً؛ تجار السلاح والمخدرات، أمراء الحرب المتدثرون بنياشين وملابس الدولة، صعاليك السياسة المقيمون في مناسبات المنِّ والسلوى القاتلة، العوام من القبائليين المسحوبين من أنوفهم إلى حتوفهم.

هؤلاء جميعاً يعملون ضد نواميس الدولة، ويراهنون على استمرار الانحلال المنهجي لمؤسساتها، وليست اليمن الدولة الوحيدة في العالم التي واجهت مثل هذا التحدي المصيري، ما يقتضي الوقوف أما تجربتين عالميتين هامتين في كيفية استعادة الدولة المخطوفة.

التجربتان كانتا في إيطاليا وروسيا، فقد دأبت المافيا الإيطالية المجرمة على اغتيال القضاة جهاراً نهاراً في شوارع المدن الإيطالية، في سبعينيات القرن العشرين المنصرم، وكانت الشرطة الإيطالية تحاذر الاقتراب من مربعات النيران المافيوية، لكن يوماً من شجاعة القرار السياسي أبطل أفعال المافيا، فقد اتخذت الدولة قراراً بمطاردة واعتقال ومحاكمة رؤوس المافيا، وقد تمَّ ذلك بعد محاصرتهم الطويلة في جزيرة صقلية، حيث استسلموا خاضعين صاغرين، لينالوا جزاءهم العادل، ولتنعتق إيطاليا مرة، وإلى الأبد من محنة المافيا الرافضة للدولة ومعناها. في روسيا على عهد يلتسن، تغوَّلت المافيا لتنشر أسباب الموت والدمار، وحالما استلم بوتين السلطة كان القرار حازماً واضحاً، اعتقال رؤوس الإجرام وإيداعهم السجن، حتى يقدموا براءة ذمة ناجزة للمليارات، التي نهبوها على حين غفلة من التاريخ. منذ ذلك اليوم القريب بدأت روسيا تزدهر، لتستعيد مجد الدولة، مقروناً بمجد الاستعادة المنهجية لأسباب المنعة والنماء.

المتغير الجديد في الساحة اليمنية، يشير إلى تصادم واضح المعالم بين خيار الحوار الوطني ومرئياته المستوعبة في أساس الذاكرتين المحلية والعربية، إضافة إلى الذاكرة السياسية الدولية، مقابل استمرار النشاط التخريبي بإيقاع متصاعد، وكأن هذا التناقض السافر بين الحلم الفاضل والتدمير الظاهر، لا بد أن ينحل لصالح الخير أو الشر.

العناوين الفاجعة تتلخَّص في ما يلي: مزيد من تفجير أنابيب النفط والغاز، ومزيد من الاعتداء على أبراج الكهرباء، ومزيد من الاغتيالات الموجهة ضد منتسبي الشرطة، والقوات المسلحة، وهدنة قلقة بين الحوثيين والسلفيين من جهة، كما بين الحوثيين وبعض قبائل حاشد المناصرة لبيت الأحمر من جهة أخرى.

هذا المشهد يعكس تماماً مستوى الاستحقاقات الباهظة التي تقع على عاتق القائمين على أمر الحكم والحكومة، كما يظهر مدى حساسية الزمن السياسي الذي يتآكل بقوة دفع انحدارية لا تخطئها العين.

أمام هذه الحالة الأكروباتية تبدو خيارات الانتقال السلس محفوفة بكثير من المخاطر، كما تنبري ثقافة الحرب المليشياوية لتصبح العقبة الكأداء أمام الإصلاح، حتى أن فكرة استعادة الدولة ضرورة لا مفر من تحققها الكامل، فالدولة غائبة قسراً، والشاهد أن الخدمات الطبيعية تنساب من بين أنامل المؤسسات المعنية بتأمينها، والتي تتعرض لهجمات منسقة من قبل رافضي الإصلاح والتغيير.

والأخطر من كل ذلك أن فرقاء الساحة المعنيين بالتوافق الانتقالي، لا يضعون النقاط على الحروف، ولا يحددون ماهية ومن يقوم بهذه الأفعال، وكأن الجميع منخرطون في لعبة خطرة من الغموض المقرون باتفاقيات غير معلنة، وربما توازنات مريبة، تجعلهم موحدين في سكوتهم المريب، متحدين في القبول الضمني بما يجري على أرض الواقع من فداحات.

هذا هو التفسير الوحيد أمام عامة المواطنين اليمنيين، في ظل وجود مُخربين وقتلة ومعتدين لا يتم القبض عليهم ولا محاكمة أحد منهم، حتى وإن أعلن البعض عن آثامه جهاراً نهاراً، متحدياً الدولة ومؤسساتها.

تقول الحكمة الصينية، إن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة، وأقول عطفاً على ذلك، إن مسيرة الإصلاح الحقيقي تبدأ بفعل واضح، يستهدف رؤوس الإجرام والفساد، كما حدث في غير مكان في العالم، ومن دون ذلك ينسد الأفق، وتتحول السياسة إلى مجرد مخاتلة للنفس والأوطان.

Email