اليمن بين الحوار والدمار

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتموْضع اليمن اليوم على مسافة حرجة ما بين الحوار والدمار، تلك المسافة التي يمكن ملاحظتها من خلال الجدل الصراعي بين ثنائية الحوار الوطني الذي يتوق الأخيار إلى استكماله، والدمار الشامل الذي يتوق الأشرار إلى تعميمه. إنها المسافة ما بين نعم ولا، والشاهد أن قول "نعم" يتَّصل موضوعياً بقانون التاريخ والحياة، ويتَّسق مع التغيير بوصفه المخرج المنطقي من الاحتقان، فيما تمثل "لا" حالة الإقامة السرمدية في تلك الأوضاع التي استنفدت عملياً شروط بقائها، وأصبحت تثقل كاهل الدولة والمواطن معاً. ومن هنا كان الحوار وما زال يمثل استجابة عاقلة لمقتضيات التاريخ والحقيقة، فيما يمثل رفض الحوار إصراراً على التحليق خارج سرب التاريخ والحقيقة.

لكن هذا الاستنتاج العام بحاجة إلى استقراء مُجيَّر على وقائع الأرض وما يحدث يومياً فيها، وهنا أجد نفسي منساقا مع قدر من التشاؤم النابع من ملاحظة أن الحوار يتعطَّل، وأن الرُّشد يتبخَّر، ويتحول إلى متوالية جديدة لإنتاج ذات الأزمة التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه، وفتحت باباً مرعباً لسوء المآل، وذلك بالقدر الذي تواصل فيه المكونات السياسية عجزها الماثل، وافتقارها المشهود لصنع مخارج عملية تتصدَّى للتخريب والتدمير والموت المتجول في مختلف الأرجاء، وكأن الجميع مخطوفون من ذواتهم العاقلة.. مسحوبون من أنوفهم صوب منطقة رمادية غامضة..

هذه الأحكام النسبية التي أتمنى أن تكون خاطئة، تجد مسوغاتها وتبريراتها في ما يجري على خط الدمار، وتنحسر فيه أيضاً دلالات الحوار وخواتمه المطلوبة.

بالأمس تم إنهاء المناقشات حول قانون العدالة الانتقالية، لكن هذا لا يعني أن القانون سيأخذ مجراه للتطبيق، طالما ظلت سلسلة من التوجيهات والقرارات الرئاسية مُعلَّقة على مشجب التأخير المُتعمَّد.. وبالأمس أيضاً توافقت أطراف أساسية على رؤية مشتركة حول القضية الجنوبية، لكن تنفيذ تلك الرؤية ينتظر موافقة النصف الآخر الرافض لها، ما يجعل المسألة برمتها فوق الحل، بل وخارج الممكن السياسي طالما ظل التوافق ناقصاً.

وعلى خط صعدة تتصاعد المعارك بين الحوثيين والسلفيين، وتصل إلى تخوم منطقة "أرحب" المجاورة للعاصمة صنعاء، مما يؤشر إلى فوضى مكانية، مقرونة بثقافة حرب عصبوية تهدد العاصمة ذاتها.. وبالأمس القريب تمَّ الشروع في تشكيل سلسلة من اللجان المختصة بإعادة المُسرحين الجنوبيين من عسكريين ومدنيين إلى أعمالهم، مع إغفال غير مبرر للمُسرَّحين الشماليين الذين نالهم نفس الجزاء بعد حرب 1994 المشؤومة.

لم يصل حوار الرشد والحكمة إلى خواتمه المطلوبة، ولا يبدو في الأفق أن فرقاء الساحة اليمنية قادرون على تعمير الفراغ المؤسسي الفادح الذي قد ينشأ غداً أو بعده، ولم تُمكِّن التجربة المريرة فرقاء السياسة من التخلِّي عن ثقافة المكايدات والتمترسات والاستقطابات، ولا ينظر المُصابون بعمى الألوان لفداحات ما يجري في غير بلد عربي انزلق إلى متاهة الحرب الأهلية، كترجمة تراجيدية لمنطق الغالب والمغلوب، وثقافة الجاهلية الأولى، يوم كانت الحروب بالسيوف والرماح والنبال، وكانت المبارزات المباشرة بين المتقاتلين إشارة رحمة، قياساً بالموت المعاصر العابر للأجواء، والمُسيَّج ببراميل الشظايا القاتلة، والسيارات المفخخة، والطائرات المعربدة في سماء التوزيع المجاني للقتل والدمار.

تتسارع عقارب الساعة لتضع اليمانيين أمام استحقاق كبير، يتعلَّق بضرورة استكمال مهام الحوار الوطني، والانتقال لمرحلة توافقية جديدة تقطع الطريق على الفراغ السياسي والمؤسسي المحتمل، وتُبادر فيها القوى الخيرة لمقارعة المجرمين المنتشرين في كل واد ودار، وتنطلق فيها ذاكرة الخير والمستقبل صوب المعاني الرفيعة لمعنى التغيير.

ألا فليعلم السادرون في غيهم ومتاهاتهم، أن البديل عن الحوار والتوافق هو الدمار والخراب، وأنه لا منجاة لأحد من الموت السيكولوجي إن لم يمت بالسيف، وأن ثقافة الحرب البليدة ستخلق قوانينها الداخلية العجفاء، وسيخرج الشر المستطير من مرابع سجنه المديد، وستشهد شوارع المدن الكبرى ما شهدته بيروت ومقديشيو ذات يوم غير بعيد.

استكناه هذه الحقيقة هو المقدمة الطبيعية لفعل استثنائي يرتقي إلى مستوى اللحظة التاريخية الحرجة، وأعتقد جازماً أن حكماء اليمن الذين تخطُّوا عتبة الفتنة الكبرى، قادرون على إنجاز هذه المأثرة.. التي يُسيِّجها احتضان وعناية الأشقاء في دول مجلس التعاون الخليجي، وكافة الفعاليات السياسية الدولية، وهو أمر فريد المثال لم يتوفَّر في تجارب عربية أخرى.

الأيام القادمة حُبلى بالشواهد والمشاهد، وستمثل في جُملة إيقاعها المحتمل مخرجاً مشرفاً، إذا توافق الخيرون العقلاء على صد موجة التدمير الذاتي لفرقاء التدمير، وباشروا مناجزة مع صناع الموت المتمترسين وراء أوهام ماضيهم الخائب، وأدركوا أن الفعل الحاسم في الانتقال من العُسر إلى اليُسر، يقع أولاً وثانياً وثالثاً على عاتق الداخل اليمني، وأنه لا حلول سحرية في المستويين الإقليمي والدولي ستخرج اليمنيين من حالتهم التي لا تسر.

المدخل الطبيعي والمنطقي لمجابهة التحديات الماثلة، يكمن في عدم السماح بفراغ سياسي ودستوري سيزيد الطين بلة، وعدم التهاون مع المجرمين، وعدم ترك القتلة المياومين يتجوَّلون في المدن والقرى اليمنية، وعدم تعليق الإجراءات القابلة للتنفيذ وجوباً وشرعاً وقانوناً، والتخلِّي التام عن سياسة اليد السُفلى التي يستمرئها البعض، ويعتبرونها مخرجاً لمشاكل البلاد والعباد.

لقد بلغت المسألة اليمنية ذروة مخاضها الأليم، ولم يعد في الوقت متسع للمكايدات والمناورات السياسية قصيرة النظر، ولم يعد لدى مواطني البلاد رصيد إضافي من الصبر، وهم الذين تحملوا أوزار سنتين كاملتين من ظلام المدن، وهجير الصيف الحارق، وارتفاعات الأسعار المتتالية، وغياب المنظومة الأمنية، وتراجع هيبة الدولة.

لم يعد في الوقت مُتَّسع، لأن الكل ينتظر انتقالة حاسمة نحو خيار من اثنين: تتويج الحوار بفعل يستقيم على الأرض بقوة القانون، ومعنى الدولة والمؤسسة.. أو تدمير ما تبقَّى من مقدرات سيدفع كل طرف إلى التخندق في مربع ما قبل الدولة، لا سمح الله.

Email