الربيع العربي والصحافة المدنية

ت + ت - الحجم الطبيعي

ظهرت الصحافة المدنية، أو صحافة المواطن، في منتصف العقد الأخير من القرن العشرين في الولايات المتحدة، كبديل للصحافة المسيطرة والمنتشرة في الساحة الإعلامية. وجاءت هذه الممارسة الصحافية الجديدة كبديل للصحافة التقليدية، المرتبطة بالنظام القائم وبالنخب وبالمصالح الاقتصادية والسياسية، وبالقيم المزيفة والمضللة والمعروفة بالموضوعية والحياد والحرية، وكبديل لصحافة التسطيح والتهميش والاستهلاك والاغتراب، وصحافة تبرير وتشريع الاستبداد والوضع الراهن.

وتقوم صحافة المجتمع المدني على مبدأ الوصول للمواطنين والاستماع إليهم، وإعطائهم الفرصة للاستماع والتحدث لبعضهم ومناقشة انشغالاتهم ومشكلاتهم، وطرح الحلول والبدائل، وبذلك فهُم طرف في العملية الإعلامية ومشاركون فيها، وليسوا مستقبلين فقط، بل مستقبلين وفاعلين.

يرى منظرو صحافة المجتمع المدني أنها صحافة جادة مسؤولة وملتزمة، وطريقة جديدة تهدف إلى تحديد القضايا والمشكلات الرئيسية التي تهم الرأي العام والسواد الأعظم من الشعب.

وهي بذلك تهدف إلى خلق حوار ونقاش فعال ومثمر حول أهم قضايا المجتمع، والسعي لتشخيص الأسباب وطرح الحلول والبدائل لمعالجتها. فالهدف ليس تغطية الأحداث والقضايا والجرائم والانسحاب بعد ذلك، بل الذهاب أبعد من ذلك بكثير؛ أي طرح هذه الأحداث والقضايا للنقاش والحوار والدراسة والتحليل، ومن ثم إيجاد الحلول العملية والناجعة لمعالجتها واستئصالها.

الصحافة المدنية هي نوع من الإعلام المسؤول والهادف، الذي يعنى بإعادة تنظيم الأولويات وتحديد العلاقة النوعية التي تربط المجتمع المدني بالقوى الفاعلة في المجتمع، وانتهاج طريقة جديدة في طرح المشكلات والأمراض الاجتماعية المختلفة، كالفساد والرشوة والفقر والجهل والأمية والجريمة ومختلف السلوكيات المنحرفة، بهدف مناقشتها ودراستها وتحليلها من قبل الجميع....

والتفكير في استئصال أسبابها للقضاء عليها. فصحافة المجتمع المدني هي مقاربة جديدة لمفهوم جديد للصحف والصحافيين، باعتبارهم فاعلين وليسوا متفرجين على ما يحدث في المجتمع، وهم بذلك مساهمون في الحياة العامة وفي المجتمع المدني، من أجل تغيير مجريات الأمور في المجتمع وليس مجرد تقديمها للقراء والانسحاب بعد ذلك.

وهذا يعني من جهة أخرى، إدماج وإشراك المواطنين في العملية الإعلامية، فالجميع مسؤول في الصحافة المدنية، والجميع مطالب بالقيام بدور إيجابي وفعال، سواء تعلق الأمر بالصحافي أو بالمؤسسة الإعلامية أو بالمواطن. فصحافة المجتمع المدني هي حلقة وصل بين المواطنين والسلطة، وهي الوسيط الإعلامي للمجتمع المدني الذي يعتبر الفضاء العام للشرائح الاجتماعية والمكونات المختلفة للمجتمع.

فمن خلال المجتمع المدني والصحافة المدنية، يتحقق في النهاية ربط المجتمع المدني بالقوى الفاعلة في المجتمع وبصناع القرار والمؤسسات والتنظيمات والهيئات المختلفة، حتى تقوم كل جهة وكل طرف بمسؤوليته ودوره في معالجة القضايا الاجتماعية المختلفة كل حسب اختصاصاته وصلاحيته.

ومن خلال صحافة المجتمع المدني يشارك المواطن في عملية التنمية الشاملة وفي صناعة القرار، وهكذا يتكفل الفرد في المجتمع بواجبه الاتصالي والإعلامي لإيصال رأيه وفكرته، وكذلك لاستقبال المعلومة التي تهمه وتساعده في صناعة القرار السليم.

صحافة المجتمع المدني هي طريقة جديدة لمساعدة الجمهور للتغلب على حالات الضعف والتهميش والاغتراب والشعور بالإقصاء، وعدم القدرة على المشاركة في الحياة العامة. فالصحافة المدنية تهدف إلى تدعيم وتعزيز مفهوم المواطنة، ونشر ثقافة النقاش والحوار...

ومساعدة عامة الشعب على الاندماج والانخراط في طرح مشكلاتهم وهمومهم، والوصول إلى الحلول العملية لاحتوائها والقضاء عليها. فدور الصحافة المدنية لا يقتصر فقط على تناول الآفات والأمراض الاجتماعية واستعراضها، بل يركز كذلك على خلق فضاء عام لطرح ومناقشة القضايا والشؤون العامة.

وتهدف الصحافة المدنية من وراء تغطية مشكلات وآفات المجتمع، إلى الوعي بهذه المشكلات من قبل المواطنين، وحثهم على المشاركة في مكافحة الآفات والأمراض الاجتماعية، كل من موقعه وحسب إمكانياته.

فطرح المشكلة الاجتماعية غير كاف وإنما يجب الذهاب إلى ما وراء استعراض المشكلة، وهو البحث عن جذورها وأسبابها، وبذلك يمكن توصيف الإجراءات العملية اللازمة بالتنسيق مع الجهات المعنية، سواء الرسمية أو غير الرسمية، لحل هذه المشكلات.

تتحدد أدوار القائمين بالاتصال في صحافة المجتمع المدني، حسب منظري هذا النوع الجديد من الصحافة، على النحو التالي: الدور الملتزم شخصيًا بصحافة المجتمع المدني، وينبني على الواجب والالتزام الشخصي من قبل الصحافيين بحل مشكلات المجتمع المحلية. الدور القائم على الثقة بالمجتمع المحلي، وهو يعني إيمان الصحافيين بقدرة المجتمع المحلي على حل مشكلاته بنفسه. الدور القائم على الالتزام المؤسسي، وهو دور قائم على الإيمان بضرورة قيام الصحافة بمسؤولياتها إزاء حل مشكلات المجتمع المحلي.

تتطلب الديمقراطية في المجتمع صحافة ملتزمة وواعية، تقوم بمسؤوليتها الاجتماعية على أحسن وجه، ومواطن مسؤول وواع منخرط في مجتمع مدني يناقش مشاكله وهمومه وقضاياه بطريقة ديمقراطية صريحة وواعية ومسؤولة، من أجل مشاركة الجميع في الحوار والنقاش واقتراح الحلول والإجراءات العملية لمعالجة المشاكل واستئصالها.

والكلام عن الصحافة المدنية، يقودنا للكلام عن ضرورة وجود مجتمع مدني نشط وديناميكي وفعال، يكون الإطار العام الذي تنشط فيه الصحافة المدنية. التحدي إذن كبير جدا في العالم العربي، خاصة في عصر العولمة والثورة المعلوماتية وصناعة المعرفة وانهيار الحدود والحواجز. فالمواطن يجب أن ينتقل ويتحول من مجرد مستقبل ومستهلك، إلى مشارك وفاعل واع ومسؤول عن سلوكه الاتصالي والإعلامي.

في ظل الفضاء الإعلامي الملوث الذي يعيشه معظم المجتمعات العربية، وفي ظل ظاهرة التبعية والتقليد والانجراف، يتحتم على المواطن والمؤسسة الإعلامية والمجتمع المدني إن وُجد - في الوطن العربي، التفكير في البديل، في صحافة مسؤولة وملتزمة وواعية، تعنى بالقضايا الحساسة والجادة والمصيرية التي تهم السواد الأعظم من الشعب، لطرحها واستعراضها ومناقشتها وإشراك الجميع في اقتراح الحلول الناجعة لمعالجتها.

فهل سيكون الربيع العربي هو الانطلاقة الجادة لصحافة المجتمع المدني في العالم العربي؟ وهل ما بدأته الشبكات الاجتماعية في عملية التغيير والإطاحة بالأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي، سيؤدي إلى منظومة إعلامية جديدة بقيم ومبادئ جديدة، لخدمة كلمة الحق ومصلحة الشعوب المغلوبة على أمرها؟

 

Email