الظاهر والمُستَتر في المشهد اليمني

ت + ت - الحجم الطبيعي

بلغت الحالة اليمنية ذروتها التراجيدية، بالعملية الإجرامية الكبيرة والمنسًّقة في مستشفى "العُرضي" التابع لوزارة الدفاع اليمنية، والتي أفضت إلى عشرات القتلى ومئات الجرحى، مع قدر كبير من التدمير، وحتى إغلاق العديد من السفارات والمكاتب الدولية، في تعبير سافر عن عدم ثقة المجتمع الدولي بالأمن الرسمي اليمني.

لقد ظهر جلياً منذ البدايات أن العملية التي تمَّت لا تشبه العمليات التقليدية لجماعات القاعدة، التي تلجأ عادة إلى العمليات الخاطفة غير الكبيرة، وذلك استناداً إلى قابلياتها وطبيعتها التنفيذية المقتصرة على الأفراد والجماعات المحدودة عددياً؛ كما تبيَّن من صيغة البيان المنسوب للقاعدة، والذي أعلنت فيه مسؤوليتها عن تلك العملية، أنها صيغة مُغايرة تماماً لمألوف بيانات القاعدة، المُدججة عادة بلوازم كلامية دينية متشابهة.

هذه المرة كانت الصيغة من الركاكة والتخبُّط إلى حد جعل المراقبين يشكون في أنها لغة أهل القاعدة، وهذا ما تبيَّن سريعاً، فبعد مرور يومين أعلن متحدث باسم القاعدة أن العملية ليست من فعل التنظيم.

وبمناسبة القاعدة في نسختها اليمنية، لا بد من الإشارة إلى أن هذه النسخة ليست سبيكة مغلقة، ولا هي شبح غامض، ولا بعيدة عن الالتباس بالمعطيات الأمنية، والمؤامرات الغامضة التي يديرها أُمراء الحرب القابعون في أوكار مؤامراتهم ضد وطنهم ومجتمعهم..

وبهذا المعنى يمكن القول إن المراهنين على تدمير المصالحة الوطنية المأمولة، يقفون وراء كامل العمليات الهمجية الإجرامية التي تعدَّدت وتنوَّعت، لتصل إلى ذروتها الطبيعية بقدر كبير من اللزوجة السياسية التي تواترت على مدى عامين، وأحدثت حالة من الضبابية القاتمة، وقدراً كبيراً من التساؤلات في الشارع اليمني المغلوب على أمره.

وعلى خطٍ مُتَّصل، تتمُّ مكافأة المعتدين على خطوط أنابيب النفط والغاز، بحجة تقول إن دفع بضعة ملايين لهم يوفر عشرات الملايين للدولة! وهكذا نجد الماضي القريب يعيد إنتاج نفسه بمنطق التعامل مع المجرمين الموتورين، من كل شاكلة ولون، وتلتبس السلطة بالحالة وكأنها تُشجع المعتدين على مواصلة خرائبهم، وتكافئهم مالاً على أسوأ ما يفعلون!

صبر اليمانيون وصابروا.. تحملاً وامتصاصاً لهذه الصدمات المتتالية، لكن الأمر لم يقف عند حد، فقد شهدت الساحة اليمنية مئات الاغتيالات العسكرية والسياسية، واختطافات متقطعة لمختلف الفئات المجتمعية والخبراء الأجانب، فيما تزايدت وتيرة القتل والتدمير باقتراب مؤتمر الحوار الوطني من خواتمه المأمولة، التي تتأجَّل يوماً بعد آخر.

من الغباء قراءة هذا المشهد الميداني المعجون بالدماء والدموع، خارج المُعطى السياسي الملغوم بصراعات الظلام والظلاميين. فالمصالحة الوطنية التي بدت باهرة واعدة بعد التوقيع على المبادرة الخليجية والأخذ بأسبابها، تكشَّفت عن صراع مؤجل، وإصرار على تدوير معطيات الأزمة وخرائبها، ونضوب فاجع في العقل السياسي المعني بإدارة المصالحة، على قاعدة الحكمة والتنازلات الشجاعة، وتقدير المصلحة العليا للمجتمع.

اليوم يزداد الاستقطاب غير الحميد، والتَّمترُسات المتخلفة، والاستدعاءات المريبة لغوامض دينية مقرونة بغسيل دماغ فاجع لطرفي التقاتل على جبهتي الدين السياسي، الذي يتمرأى ظاهراً مخيفاً في منطقة "دمَّاج"..

حيث يحتدم قتال ضارٍ بين السلفيين والحوثيين، وكلاهما في الكلام والتاريخ، لا علاقة لهما بالوسطية التاريخية لليمانيين بشقيهما الشافعي والزيدي. أُمراء الحرب المتوارون وراء كهوف خيامهم المظلمة، والمتمنطقون منهم نياشين الدولة وأرديتها.. يصرون جميعاً على مواصلة سياسة التدمير الذاتي..

والسير على درب المتاهة.. وفي كل يوم تزداد الأوضاع تفاقماً ورهقاً، وخيبات المتفائلين القابضين على جمرة الحق والعدل تتزايد، والمنسحبون من دوائر الفتنة ينظرون بعجز كبير لما تنطوي عليه الأحوال من وعود زلزالية، والمبادرة الخليجية تترنَّح أمام إصرار العُتاة على تعطيلها، والمعطيات الإقليمية والدولية الداعمة للمبادرة ومرئياتها تزداد حيرة وضبابية..

ومع كل هذا وذاك، يدفع الشعب اليمني وحده ضريبة المحنة المتفاقمة.

أمام هذه المعطيات التراجيدية المُهلكة، يتساءل المرء عن دور القابضين على توافق الكذب والمخاتلة، وما يمكنهم فعله خارج نطاق تبادل الاتهامات المستترة، والكلمات غير محددة الملامح؟

ولماذا تأجيل الإعلان عن الفاعلين الحقيقيين لكامل التصعيد الدموي المشهود؟ وهل تمكن المراهنة على العملية السياسية في ظل الاغتيالات والتفجيرات والحروب المُتنقِّلة في أربعة أرجاء البلاد؟ وما هو الدور المُلزم للأجهزة الأمنية التي تتفرج على المشهد كما لو أنها غير معنية بمجابهة الجريمة والموت المجاني؟

أسئلة كثيرة تضع مركز السلطة ومعنى حضورها في قلب الاستحقاق المُلِح الخطير، حتى أن البعض يزعم أن السكوت علامة مشاركة، وأن الفاعل الإيجابي لا يقل مسؤولية عن الفاعل السلبي، فالأول يفعل وينكر ما فعل.. يقتل القتيل ويمشي على جنازته، والثاني يعلم من فَعل ويسكت عليه، وبهذا يقوم بتجويز القتل من موقع القادر على منعه!

يتلخَّص مشهد الظاهر المتوافق مع الأمل والخروج من النفق، في ما أنجزه مؤتمر الحوار الوطني حتى اللحظة، غير أن هذا الإنجاز ما زال مكبوحاً بتتويج الحوار وانفساح الدرب على استتباعاته المنطقية. وفي المقابل يتلخَّص مشهد المُستَتر الغامض، في جملة العمليات الإجرامية المُتنقِّلة في طول وعرض البلاد، والتي لا تجد مواجهة جادة حتى اللحظة.

لقد فاض الكيل وبلغ السيل الزُّبَى، وليس أمام القيادة السياسية المسؤولة عن الدولة ومقتضيات شرعيتها التوافقية، إلا مباشرة المعالجات المنطقية لاستفزازات المجرمين المنتشرين على الأرض وفي دهاليز المؤامرات والغرف السرية، ولا يمكن لأي سلطة مكاشفة الحقيقة إلا إذا قامت بعرض منفذي الاعتداءات الإجرامية المُنفِّذين المقبوض عليهم أمام الشعب، من خلال محاكمات علنية ستكون بمثابة إقرار ذمة أمام الشعب الذي يحق له معرفة المُنفِّذين، ومن يقف وراءهم.. كائناً من كان.

تلك هي الوسيلة الوحيدة والناجعة لبراءة ذمة القيادة السياسية اليمنية ومن يعاضدها، ومن دونها يصبح الجميع شركاء في التدمير المنظم لمقدرات بلد عربيٍ مهم، بسعة 555 ألف كيلومتراً مربعاً، وبعمق تاريخي جيوسياسي يتاخم كامل الجزيرة العربية، وسلسلة من البحار والمحيطات.

مرة أُخرى وأخيرة أقول: على القيادة السياسية وحكومة الوفاق الوطني اليمنية تقديم براءة ذمة تجاه شعبها، من خلال محاكمة علنية للقتلة، تكشف الحقيقة، وتجلي الغوامض.. أو الانسحاب والاستقالة بشرف، كما فعلها ذات يوم قريب الراحل فرج بن غانم، الذي رفض أن يكون أداة في لعبة خسيسة لا يرضاها لنفسه.

 

Email