بهذا تميَّزت دولة الإمارات

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تتميز الإمارات العربية المتحدة في المنطقة العربية لكونها بلداً يتوفًّر على ريع نفطي كبير، كما يتوهم البعض، بل لكونها مشروعاً «دوْلتياً» اختار طريق التنمية والمشاركة، وفن تنظيم المصالح المتبادلة، مع ترجيح دائم للمصلحة العامة.

فالإمارات العربية المتحدة تعيد خيرات أرضها ونتائج نموها للأرض والمجتمع، وليس معروفاً ولا مألوفاً عنها ترحيل المليارات إلى البنوك العالمية، كما يفعل سَدَنة الحكم والحكومات في بقية أرجاء العالم العربي، هنالك حيث يتم حرمان الناس من ثمار جهدهم وعملهم، مقابل تكديس الأموال الغاربة في بنوك الوهم والغسيل الرديء.

لم تتميَّز الإمارات عربياً لكونها تمتلك ريع نفط وغاز كبيرين، والشاهد أن عديد البلدان العربية تمتلك من الريع النفطي والغازي، ما يفوق كميات النفط والغاز المستخرجة في دولة الإمارات، ولهذا سيكون الجواب على سؤال العنوان حاضراً في أساس التجربة الإماراتية الفريدة في العالم العربي.

فالإمارات العربية المتحدة، هي الدولة الاتحادية الوحيدة في العالم العربي، ولكونها كذلك، اتسع فيها ملعب المشاركة والنماء الاقتصادي، فيما أصبحت الأفضليات النسبية لمكونات الدولة حاضرةً في قلب العطاء السخي، الذي أظهر ميزات هذا النموذج، ومتَّن من لحمة الوحدة الوطنية، واتسعت فيها الآفاق لتنمية أفقية ورأسية نادرة المثال في العالم العربي.

تلك هي التميمة الحاملة لتميُّز الإمارات، ومن منصة الحكمة والرويَّة والصبر انطلق قادتها المؤسسون، وتنامت آفاق رؤيتهم التي تواصلت تباعاً لتثمر حقيقة موضوعية وحالة وجودية، مُغايرة لما يجري في كامل الزمن العربي الموبوء بالمركزيات الفجَّة، والاحتكارات المُجافية للتنمية الأفقية، والاستحواذات التي تستبعد الآخر إجرائياً، فيما تجعل السلطة مجرد مُلكٍ يذكرنا بحال عرب الجاهلية.

ورد في متون التاريخ أن امرأ القيس الذي تاق لتحالف مع الإمبراطورية الرومانية، انتصاراً على مناوئيه العرب.. قال في لحظة اتساق مع مفهومه للحُكم، وهو يخاطب مرافقه في قلب الصحراء القاسية:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه * وأيقن أنَّا لاحِقان بقيصرا فقلت له لا تبكِ ويْحكَ إنَّما * نُحاول مُلكاً أو نموت فنُعذرا هنا نلحظ التقليد التاريخي العربي الذي يربط الحكم بالمُلك والسُّلطان، ولا شيء سوى ذلك، كما نعرف المعنى العميق وراء قول الحمداني: نحن أُناس لا توسُّط بيننا * لنا الصدرُ دون العالمين أو القبر

جافت الإمارات العربية المتحدة ثقافة التطرف بأنواعها، وسارت على درب الوسطية الحميدة، رائيةً إلى ما لم يره غيرها من عرب المتاهات، وبهذا امتازت وتميَّزت، وعلى هذا الدرب سارت وتطورت.

التطرف لا يتحقق إلا في ظل الدولة المركزية المُجْدِبة.. تلك التي تحيل القابليات الهائلة للتنمية والتطوير، إلى سبب فاقع للفقر الداكن والغِنى الفاجر، وهذا ما رأيناه ونراه في كامل العمق العربي المتمسك بدولة القرون الوسطى باسم الوحدة والواحدية.

هنالك حيث يتم تدمير الطبقة الوسطى تدميراً منهجياً، فيما يترافق المال الفاجر مع الفقر الأسود، والرثاثة السيكولوجية، فيستوي الطرفان في معادلة البؤس. وفي المقابل سنجد مدى تحقق الوحدة الوطنية والسوية المجتمعية في الإمارات العربية المتحدة، بسبب الاختيار الواعي الحصيف للنموذج الاتحادي الفيدرالي، دونما تجنٍ وتجاوزٍ لخصائص المجتمع الموروثة من التاريخ الحميد.

فالمعروف في الآداب السياسية والمُمارسة الدولية، أن النماذج الاتحادية ليست موديلاً واحداً، وأن الجامع المشترك بينها يكمن في قدرة هذه النماذج على توسيع ملعب المشاركة، وتحقيق التنمية المستدامة، ومزاولة السلطة بوصفها مسؤولية.

لقد عقدت الإمارات صُلحاً تاريخياً مع الذات العربية الإسلامية من جهة، ومع الآخر الإنساني من جهة أخرى، فكانت النتيجة نماءً أُفقياً، وازدهاراً لافتاً، ومتوالية صعود بنَّاء مغايرٍ بالجملة لكل ما يجري في بقية العالم العربي.

وأنا لا أقول هذا من باب المزايدة أو التقريظ المجاني، بل يقوله كل العليمين بدهاليز الاجتماع والاقتصاد والإدارة والمأسسة.

وأذكر بهذه المناسبة أنني كنت في زيارة لشركة سوني اليابانية العابرة للقارات، في عام 1979، بمناسبة مرور خمسين عاماً على إنشاء تلك الشركة، وفي حديث عابر سألت مديرها العام عن إمكانية أن تعيد "سوني" النظر في خيارات إعادة التسويق عبر دبي، وذلك عطفاً على الترويج المكثف لبعض موانئ إعادة التصدير في البحر الأحمر والخليج العربي وخليج عدن وبحر العرب، فكان رده الفوري المباشر: نحن لا نفكر في استبدال موانئ دبي الحرة لعشر سنوات قادمة.

كانت الإشارة واضحة والتبرير موصولا بكامل الثقة التي اكتسبتها موانئ دبي الحرة، مما لا بديل له في المدى المنظور، بحسب ما قاله مدير عام سوني حينئذٍ. على خط مُتَّصل، يرى المراقبون في اختيار دبي الدولي لمعرض اكسبو 2020، أبعاداً تنخرط فيها الدول التي رجَّحت كفة دبي منذ التصويت الأول، ثم تواصلت متوالية الترجيح لتومئ إلى الشركات العالمية العابرة للقارات، والتي كان لها صوتها المسموع في أروقة حكوماتها، واحتسابها المؤكد لما ستجنيه من إقامة المعرض في دبي بالذات.

لقد أثبتت التجربة الإماراتية الاتحادية الفريدة عربياً، ذلك المعنى النابع من تعددية السياقات التنموية، وتطوير الأفضليات النسبية للمناطق، واتساع ملعب المشاركة المحلية والعربية والدولية، مما لا يتعارض أصلاً وجوهراً مع القوانين الوضْعية والسِّلم الاجتماعي. كما أثبتت أن مفهوم التنمية العصرية في العالم، تجاوز بمراحل ذلك المفهوم القاصر على الريع النفطي، والزراعة التقليدية، واقتصاديات المراعي البحرية والبرية.

وقد تميَّزت الإمارات وما زالت تتميَّز بأفضل الحلول الإدارية والتنموية، والإسراع في الأخذ بأسباب التطور، على قاعدة المُناجزة والصبر والدأب، وتأمين أفضل بيئةٍ للمعايير التقنية والإدارية الضامنة للنجاح. وكانت هذه المثابة إشارة ذات معنىً، ورسالة ضمنية للعالم العربي المقيم في مرابع عاداته غير المتوافقة مع روح العصر واستحقاقاته الباهظة.

لقد استنفد النظام العربي التقليدي شروط بقائه في الحاضر، ناهيك عن المستقبل، ولهذا وجب القول إن النموذج الإماراتي يُقدم البديل والخيار لكل العرب، ذلك أن هذا النموذج انطلق من ذات المُقدمات التاريخية والجغرافية العربية، ليحقق مُغايرة شاملة في مختلف أوجه الحياة، وليكون نبراساً لمن كان له عقل وقلب. تلك هي الرسالة التي تقدمها الإمارات للعالم العربي.. بصمت وشفافية مقرونتين بالتواضع، والمساعدة المعنوية والمادية.

فهل يتأسَّى العرب بتجربة نابعة من بيئتهم وتاريخهم، ليؤكِّدوا للعالم أجمع أن العرب قادرون على الدخول في المباراة الحرة للعالم السوي، وأنهم لا يُغردون خارج السرب الإنساني العام؟

Email