تميمة روسيا السوفييتية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاستغناء عن كل العالم مقابل حاجة الآخرين لكل العالم.. هذا العنوان الطويل تعبير رمزي عن استنتاج جوهري يتعلق بتوصيف الحالة الروسية الراهنة، بوصفها مُقارِبة للحالة السوفييتية، مع فارق أساسي يتعلق بكون الحالة السوفييتية كانت أقل براغماتية، وأقرب للأيديولوجيا الحالمة بمجتمع طوباوي لا نظير له!.. ذلك الحلم الذي دمرته البيروقراطية المركزية السوفييتية، وثقافة القوة الكاسحة، دونما اعتبار للمنافسة العالمية الحرة في ميادين الاقتصاد المرن، الذي انبرت له الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية واليابان.

تبدو الحالة الروسية البوتينية أقرب إلى براغماتية ذات طابع روسي.. براغماتية مقرونة بالتؤدة والقدرة على الانتظار، وعدم استعجال النتائج، مع تأمين أكبر قدر من القوة الرادعة للعدو المفترض، وفي حالتنا هذه تكون الولايات المتحدة هي العدو اللدود لروسيا، كما كانت عدواً تاريخياً للاتحاد السوفييتي ونموذجه العالمي. ذلك النموذج التي تصدَّت له الولايات المتحدة في عقر دارها، حينما تم شَرْعنتْ قوانين «مكارثي» المُطاردة لليساريين الأميركان ومن التحق بركبهم داخل الولايات المتحدة، وكانت فترة الحرب الباردة وسباق التسلح ترميزاً مكثفاً لذلك الصراع المحموم، بين النموذجين والقوتين القطبيتين.

روسيا البوتينية الراهنة تختزل الاتحاد السوفييتي، لأنها تمثل الكيان الأكبر المُنخلع من جسد الإمبراطورية السوفييتية، حيت تقدر مساحتها الإجمالية بما يوازي 80% من مساحة الإمبراطورية السوفييتية المنهارة، وفق قواعد السقوط الحر التي سنتها العبقرية الروسية الرائية للسقوط بوصفه ضرورة، والخروج من شرنقة الماضي بوصفه تجديداً قابلاً لاعتماد تجارب متنوعة، وموديلات مُتغايرة.

وقد لاحظ المراقبون أن الموديل الذي اعتمده الرئيس الراحل «يلتسن»، والذي اشتهر باسم «الانتقال بالصًّدمة» لم يفلح في معافاة روسيا، وبالتالي كان موديل بوتين الانتقالي المتدرج وفق الموروث السوفييتي ذي الجذر العميق في الثقافة الروسية البطرياركية، هو البديل الذي لم يخفق حتى اللحظة.

روسيا التي مثلت العمق السوفييتي الأسبق، تُمثِّل أيضاً وضمناً الرافعة الكبرى لما سمي بعد حل الاتحاد السوفييتي باتحاد الجمهوريات المستقلة.. تلك التي باشرت تباعداً عن المركز الروسي فور انحلال الاتحاد السوفييتي، لكنها اكتشفت بعد حين أنه لا مفر لها من العودة إلى أحضان موسكو، التي تمثل قلب الرحى في معادلة التكامل الاقتصادي والثقافي مع الفلك السوفييتي السابق، خاصة بعدما تيقَّنت تلك البلدان أنها في أشد الحاجة للطاقة الروسية، بشقيها النفطي والغازي، كما أحسنت إدارة بوتين صنعاً بإبقاء تلك الروافد الحيوية لبلدان الاتحاد السوفييتي السابق، دونما اشتراطات وشروط قهرية جديدة. وبدلاً من ذلك اعتمدت نظام الأفضلية التجارية الكاملة لصالح بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، باستثناء من «يشق عصا الطاعة ويتمرد على الجماعة».

هذه السياسة المكيافيلية توازت مع دبلوماسية روسية ناعمة، تمكَّنت بالتدريج من استعادة العلاقات التقليدية مع تلك البدان، وخاصة أوكرانيا ومولدافيا وبيلاروسيا وليتوانيا ولاتفيا، ومنظومة دول الجنوب (طاجكستان، وقرغيزستان، وأوزبكستان). وهكذا وقف الأميركان وحلفاؤهم أمام تراجع للجمهوريات السوفييتية السابقة نحو القطب الروسي، بما فيها جمهوريات أوروبا الشرقية..

وعلى درب المقدمات التي تجعل روسيا الراهنة وريثاً واقعياً للاتحاد السوفييتي، لا بد من الإشارة للقدرات الاستراتيجية العسكرية، والإمكانيات المادية التي تصل إلى حد الوفرة غير المهددة بالانقطاع، وخاصة في مجالات إنتاج الطاقة، واقتصاد التعدين، بالإضافة إلى الإنتاج الزراعي السمكي الواسع، والصناعة الأفقية القابلة لمزيد من التطوير وفق النموذج الصيني، ممَّا يمكن رصده في روسيا.. البلد الأكبر مساحة في العالم، والذي يصل أقصى غرب العالم بأقصى شرقه، بمساحة أُفقية تمتد ما يزيد على 12 مليون كيلومتر مربع، وهي مساحة توازي مساحتي الولايات المتحدة والصين مجتمعتين. بعيد السقوط الحر للاتحاد السوفييتي، تحسبت الولايات المتحدة لكامل العوامل التي أدت إلى ضعف الاتحاد السوفييتي وسقوطه الحتمي، لكنها لم تتحسب للعمق الروسي الذي يتميز بالقدرة الاستثنائية على إدارة روسيا خارج نطاق الارتهانات الخارجية المحتملة.

وقد أدرك الاستراتيجيون الأميركان المعنى الكبير لروسيا، التي بوسعها الاستغناء عن كل العالم، مقابل حاجة الآخرين لكل العالم. ومن هنا جاء الخطأ في الاحتساب الأميركي الذي لم يتوقع انبعاث روسيا من أحشاء الإمبراطورية السوفييتية المنهارة، كما تواترت الانتقادات الأميركية والأوروبية الغربية والصينية، لسياسات اليمين الجمهوري الذي قدم مُخططاً افتراضياً لعالم القطب الوحيد.. ذلك المخطط الذي اعتبر هزيمة روسيا، هي المقدمة الحاسمة التي لا تبدأ بإحياء برنامج حرب النجوم الريغاني فقط، ولا تنتهي بمشروع الشرق الأوسط الكبير.

نذكر في هذا الباب الدعوة الجريئة للرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، إلى «عالم متعدد الأقطاب».. والذي نال حينها قبولاً ناجزاً من قبل الصين وروسيا، حتى إن الآلة الإعلامية للمحافظين الجدد اعتبرت شيراك «مجرد ديناصور منقرض» أو مُستحاثة جاءت من عالم ما قبل التاريخ!

لقد أدَّت سياسة المحافظين الجُدد في الولايات المتحدة إلى انبعاث النزعة القومية البطرياركية الروسية، وتزاوجت تلك النزعة مع الموروث السوفييتي العتيد، والإمكانيات المادية الهائلة، المقرونة بقدر كبير من التبصُّر والتؤدة، حتى جاءت الأيام بما أثبت صحة رأي الاستراتيجيين الأميركان، الذين انتقدوا سياسات واشنطن الهجومية على روسيا.

ولعل بروفة جورجيا المتمردة خير شاهد على خيبة تلك السياسات، فقد اكتسح الجيش الروسي جورجيا بموجب اتفاقية تنص على أن «أوسيتا الجنوبية» ذات حكم خاص، وسقط الرئيس الجورجي «ساكاشفيلي» في مستنقع أوهامه، والتزمت الولايات المتحدة الصمت المطبق إزاء صديقها المهزوم علانية..

وهكذا فعلت مع كامل «الأصدقاء المُستبدين» في العالم العربي، بحساب التوصيف الأميركي لهم! وقد كان «الربيع العربي» شاهد حال على هذا التخلِّي البراغماتي، حد المراهنة على الإسلام السياسي في المنطقة العربية. لكن روسيا وجدتها فرصة سانحة لتقلب الأوراق والطاولة معاً، ولتباشر دوراً أمنياً عسكرياً ودبلوماسياً، شديد التأثير في تطورات المنطقة العربية. الموقف الروسي من أحداث سوريا، وتطورات الوضع المصري، خير شاهد على ذلك الدور المعبر عن عودة روسية بطابع سوفييتي مُعدَّل ومُشفَّر.

وتزداد هذه العودة زخماً وقيمة إذا عرفنا أن التنين الصيني يرمي بثقله الكبير مع الموقف الروسي، وأن منظومة واسعة من دول أوروبا الغربية تعيد النظر في استجاباتها التلقائية للإرادة السياسية الأميركية، وشاهدها الأكبر موقف البرلمان البريطاني من فرضية التدخل الأميركي في سوريا. الأيام المقبلة حُبلى بشواهد هذه الحالة الروسية الدولية التي تستعيد مجد السوفييت، ولكن في أفق مغاير تماماً لتخشُّب وبيروقراطية وطوباوية النموذج السوفييتي.

Email