أن يستقيل العقل العربي من عقله

ت + ت - الحجم الطبيعي

التميمة السحرية التي جادت بها قريحة العالم العربي المسلم ابن رشد، هي ذات التميمة التي تفسر لنا مُقدمات ومآلات الحضارة الأوروبية المعاصرة، كما أنها هي ذاتها التي تُميِّز صين ما بعد المفكر البراغماتي لـ"دينغ سياو بنغ". وهذا التعميم بحاجة إلى بيان وتوضيح ناجزين، حتى نعرف أين كنا وكيف كنا، وأين أصبحنا وكيف أصبحنا.

لا يختلف اليوم اثنان في أننا نحن العرب نعيش حالة من الطفو الوجداني المفارق للعقل والمنطق معاً، والشاهد على ذلك الهرج والمرج الذي يحيط بنا هنا وهناك، ونتشارك معاً في صناعته غير الحميدة، حتى وإن تبادلنا التُّهم، واعتقد البعض منا أنهم بعيدون عن أخطاء وخطايا الآخرين، والدليل الثاني القاطع المانع على ذلك، أننا نكرر أخطاء بعضنا، وكأننا خرجنا من رحم واحدة.

العالم العربي المسلم ابن رشد جاء بوصفة سحرية لم يتم الأخذ بها حتى الآن، وهذا ما حدا بالرُّشدي العتيد الراحل محمد عابد الجابري إلى اعتبار العقل العربي مستقيلاً من عقله، وفي هذا التوصيف المؤلم قدر كبير من الكوموتراجيدي الذي يضعنا في منصة رخوة لا تسعفنا على الطيران والتحليق.

انطلق ابن رشد في وصْفته الذكية من ثنائيات العقل والنقل، الرأي والحديث، الظاهر والمُستتر، الجبر والاختيار، وغيرهما من الثنائيات التي أرهقت كاهل ثقافة الكلام عند العرب المسلمين، وبدت كما لو أنها ثنائيات لا تنحل إلا بالغاء واحدة منهما، وتغوُّل الثانية.. وهكذا أصبحت الفلسفة هرطقة، والحكمة زندقة، والسؤال مذموما، حتى غدا الجواب الناجز المحفوظ في مستودع الماضي، هو المخرج من دائرتي الزندقة والهرطقة.

العبرة في ما ذهب إليه ابن رشد لا تكمن في ثقافة الكلام العربي الإسلامي، بل في الفكر المجرد، والتحديات المرتبطة بالمتغير في حياة الناس، ذلك أن العلاقة بين الثابت الأصيل، والمُتغير الطارئ، ليست علاقة تنابذ وتباعد كما يعتقد ابن رشد، بل علاقة حوار قد يفضي، بل ولا بد أن يفضي، إلى بر الأمان. ومن هنا كانت مساهمته الكبرى في كتابه الأشهر "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال"، حيث وصل إلى قناعة بأن الشريعة والحكمة تلتقيان عند تخوم الفضيلة، فإذا كانت الفضيلة دالَّة الحكمة، فإنها ليست مُجافية للشريعة.

ذلك المنطلق في التصالح بين الثنائيات التي تبدو متناقضة في ظاهرها، ومُتَّحدة في جوهرها، هو ما حدا بالرُّشدي الإنجيلي الكاثوليكي العتيد "توما ديللا أكويني" (أو توما الأكويني)، إلى زحزحة ثوابت الكنيسة القروسطية المتحالفة مع الإقطاع الرجعي، وقد ذهب توما إلى أهمية استعادة علوم الأغارقة والهيلينيين، ورأى في الحكمة المسيحية دليل انفتاح وليس انغلاق، وهكذا زحزح صخرة كبيرة من أمام التعليم الديني الكنسي المُتعصب، لكن مارتن لوثر الأول البروتستانتي، تقدم خطوة إلى الأمام ليُجسِّد العقلية الرُّشدية بأبهى صورها، قائلاً بأن الحكمة والشريعة تلتقيان حتماً وجوهراً، وبهذا المنطق الإصلاحي الديني فتح الباب للعلمانية الأوروبية التاريخية، ومهَّد الطريق السالك لنظرية العقد الاجتماعي التي قال بها "جان جاك روسو".

نعود مجدداً للقول بأن ابن رشد سار بالفكر العقلاني خطوات واسعة، وحسم الاشتباك غير الحميد بين الثنائيات المُتخشِّبة في مقالات الكلاميين، واعتبر التفسير والتأويل ضرباً من ضروب الحكمة، ورأى فيما لا يبدو مُتصالحاً قابلية كبرى للتصالح.

تلك الحقيقة المفاهيمة شكَّلت رافعة لمنطق التفكير العقلاني الأوروبي، الذي لم يأخد بالشك والنزعة المادية البرهانية لمجرد الجدل البيزنطي، بل للذهاب إلى منطقة الاسترخاء الكبرى التي ميزت هذا الفكر، ليشرع في بناء مجتمع يعقد تصالحاً بين الدين والحياة، وبين الغيب والبرهان، وبين المُمْكن والمستحيل.

العلمانية الأوروبية كالمادية الفلسفية الأوروبية.. كلاهما ليستا ضد الدين كما يزعم من لا يعرفون مقدماتهما وأبعادهما وتاريخهما الواقعي، بل صلحاً تاريخياً بين الدين والدولة.. من خلال الفصل الإجرائي بين المستويين، لا الفصل الاعتقادي الإيماني، ذلك أن العلمانية والبرهان ليسا ديناً بديلاً، ولا علاقة لهما بعقائد البشر وإيمانهم...

لقد أسقطت العلمانية الأوروبية مركزية الكاهن والحاخام، ومن على شاكلتهما. وعلى خط متصل سنجد ذات الحكمة البالغة عند الصينيين النابعين من ثقافة " التاو" غير الدينية، بالمعنى الذي نعرفه في أديان السماء الشرق أوسطية، فالتاوي يتَّصل جوهراً بالطبيعة، وهو من هذه الناحية كالبوذي المتأمِّل الذي يستمد حكمته من قوانين الطبيعة، دون أن يُحمِّل نفسه مشقة الإبحار في الغيوب.

وهو إلى ذلك من أكثر براغماتيي التاريخ اعتقاداً بتعايش المتناقضات، وتماهي المتعارضات، وهذا ما كان ديدن " ماو تسي تونغ"، و" دينغ سياو بنغ"، والشاهد أن ماركسية "ماو" كانت تختلف عن ماركسيات أوروبا التي عرفت وقتئذٍ، كما أن براغماتية "دينغ" اختلفت عن البراغماتيات "الأورو أميركية". وهذا يستحق بياناً خاصاً، لنعرف ذات الحكمة الرُّشدية في نسختها الصينية.

عندما واجه "ماو" محنة الانتفاضة الشعبية العفوية الدموية أثناء الثورة الصينية، كان الخيار المنطقي المطروح أمامه وحزبه، هو رفض تلك التصرفات التي تمَّت خارج الإرادة السياسية العاقلة، لكنه لم يفعل ذلك، بل اعتبرها صُدْفة تاريخية عفوية، تدخل في باب الضرورة! وبهذا المعنى لم يضع حاجزاً بين الصدفة غير المنطقية، والضرورة العقلية المنطقية السياسة التي كان يتبنَّاها حزبه، مستفيداً من المقولات الفلسفية المجردة للجدل الماركسي، المُدوْزن برؤية التاوي الصيني.

وفي أُفق آخر واجه "دينغ سياو بنغ" سؤالاً مصيرياً يتعلق بخيار الصين، بين نموذجين واقتصادين وفلسفتين متناقضتين حتى مخ العظم، فقال "دينغ" مقولته الشهيرة "ليس مُهمَّاً ما لون الهِرَّة، بل المُهِم أن تُجيد اصطياد الفئران"، وبهذا المعنى فتح الباب لثنائية حياتية واقتصادية، ونموذجين يتعايشان في الصين، حتى أن الصين تصف نفسها بكل بساطة وتواضع بأنها بلد واحد في نظامين، وتتسع دائرة الصفة الثنائية لتشمل أكثر من نظامين افتراضيين، وهو أمر لم تعهده المدونة السياسية التقليدية، ولا الممارسة السياسية السائدة في العالم، وفق منطق القوة والاستقواء. مما سبق يتضح لنا مدى حاجة العرب الماسة إلى استعادة ابن رشد العقلاني الحكيم، في هذا الزمن الذي نتماوج فيه مع التجريدات، والانخطافات، والطفو فوق الحقائق.

Email