لماذا الآن.. بروتوكولات حكماء صهيون؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل من ضرورة لاستدعاء الكتاب الأشهر في تاريخ الصدام اليهودي المسيحي بعنوان (بروتوكولات حكماء صهيون).. ذلك الكتاب الذي خرج من إضبارة الأرثوذوكسية الكنسية المشرقية السلافية في روسيا ليعم العالم، ويخلق جدلاً واسعاً تختلط فيه الخلافات الدينية بالمُغالبات الدنيوية؟، وهل كان اليهود في التاريخ من نوع واحد، وكأنهم من سبيكة قُدَّت من حجر واحد؟، وهل كان التحاق بعض اليهود بالديانات السماوية الأخرى مجرد تُقية أم صدرت عن قناعة؟

مثل هذه الأسئلة تستحق بعض الإشارات، وقد اختصرها في كتاب كارل ماركس بعنوان (في المسألة اليهودية)، وما انطوى عليه من إدانة للنوع اليهودي المقيم في عبادة المال والعزلة تجاه الأغيار (الجوييم)، وسنرى مثل هذا الأمر عند آخرين يحسبون سلالياً على اليهودية.

بروتوكولات حكماء صهيون من الكتب التي أثارت جدلاً واسعاً في مختلف أرجاء العالم لسببين رئيسيين أولها إن الصهيونية الدولية ودوائر واسعة من المتعاطفين مع اليهودية السياسية ينكرون الأصل اليهودي للكتاب ويعتبرونه مدسوساً عليهم من طرف بعض الروس المناوئين لليهود.

والسبب الثاني أن البروتوكولات إتّسمت بقدر وافر من التوقعات التي ظهرت بكيفيات مختلفة خلال القرن العشرين، وخاصة الحركات الانقلابية الكبرى في روسيا القيصرية وشرق أوروبا، وتمركز رأس المال العالمي في إطار مؤسسات النقد والاستثمار الدوليين، ونشوء الشركات العابرة للقارات والتي تخضع في آلياتها الاقتصادية والمالية لبورصة المال والنقد الدوليين. أيضاً سلسلة الثورات الاجتماعية والسياسية التي حدثت في بلدان كثيرة.

غير أن بعض علماء التاريخ والابستمولوجيين البرهانيين يرفضون من حيث المبدأ فكرة إخضاع تطورات التاريخ لآراء مسبقة ولإرادات تستمد رؤيتها من افتراضات قد تتحقق وقد لا تتحقق. في هذا الباب انبرى أشهر العرب بحثاً في الشأن الصهيوني وصاحب الموسوعة المشهورة عن الصهيونية الدكتور الراحل عبدالوهاب المسيري. لفكرة أن تكون البروتوكولات حقيقية أو ذات قيمة في مسار تطور الفكر والممارسة اليهودية العالمية، رافضاً مثل هذه الفرضية ومستبعداً إياها وبصورة إجرائية واضحة.

وإذا تجولنا في أروقة الأفكار النبوئية أو ذات الصلة بالتوقعات، سنجد سلسلة كبيرة من الكتابات اللافتة ومنها على سبيل المثال لا الحصر توصيات الفارابي حول نموذج السياسة الرشيدة، وهي وان تعارضت مع توصيات ميكافيللي الشهيرة، إلا أنها تلتقي معها من حيث جوهر الفكرة، فيما تحمل مضموناً مستقبلياً للدولة القادرة على البقاء..

وعلى ذات الخط يمكننا قراءات ابن قتيبة في كتابه "الإمامة والسياسة" والذي لا يصف فيه ما حدث في سقيفة بني ساعدة إثر وفاة الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، بل أيضاً الإيماء إلى الجذور العصبية الكفيلة بتدمير الدولة أو إكسائها فتوة وقوة دفع إلى الإمام.

أما نوستراداموس صاحب النصوص الشعرية الغامضة "القرون"، فإنه يدخل في أدب النبوءات من أوسع الأبواب، مما حدا ببورصة التأليف والتفسير العالمي للنصوص إلى اعتباره كنزاً لتسويق كتب التنبؤات والأوهام أيضاً.

ولا نغفل في هذا الباب الكلاسيكيات المدرسية الماركسية التي تاقت إلى مجتمع ألفي جديد بل ووضعت مخططات ذهنية ورسومات بيانية لذلك المجتمع. كما لا ننسى ما ذهب إليه عالم المستقبليات "ديفيد تفلر" في توقعاته الستينية لمدن القرن العشرين معتمداً على مشاهدات عيانية واستنتاجات مؤسسة على المعرفة المجردة لا الميتافيزيقا.

مما سبق يتضح أن بروتوكولات حكماء صهيون من الكتب التوّاقة إلى تعميم المركزية اليهودية.. ذات النفس الميكيافيللي من زاوية تعاملها مع "الأغيار" أو الآخرين من خارج النوع اليهودي "الغوييم".. وسواء أكانت البروتوكولات محض تلفيق صاغه بعض المناوئين لليهود، أم كانت كتاباً يهودياً أصيلاً، فإن مما لا جدال فيه كونه يفتح شهية البحث في الرؤى الميتافيزيقية والمقاربات السياسية المستقبلية الرشيدة منها والشريرة، مما يوصلنا في نهاية المطاف إلى قناعة بسيطة مفادها أن الخير والشر يقبعان في كل هذه المؤلفات، وإن ما قد نعتبره حلماً طوباوياً لبعض المفكرين يحمل قبساً من الخير. أما الكتب المستندة على براغماتية السلوك السياسي وعبادة القوة والمال فإنها تخرج من إضبارة الشيطان وأعوانه.

لقد رأينا في التواريخ المسطورة للأديان جملة الفرق الصغيرة التي تحوْصلت بالغموض وعدم البوح، هرباً من القمع والمصادرة، كما رأينا بالمقابل جملة المنتصرين المُنتشين بالظفر، وكيف تعاملوا مع أقرانهم في المِلة والعقيدة.

في تاريخ اليهودية انقلب بنو إسرائيل على موسى عليه السلام، وعبدوا العجل من بعده، وفي التاريخ المسيحي وصل الحواريون إلى طريق مسدود بفعل القمع الروماني البشع، فيما ظهرت مسيحية "بولص الرسول" بمشروعها التشريعي التصالحي بين عهدي اليهودية القديم، والمسيحية الجديد، والإرادة الرومانية الإمبراطورية، وبهذا تحولت طهرانية الحواريين إلى براغماتية متحالفة مع السلطان دون خيار أو إرادة منهم، وسنتابع مع "الشهرستاني" تواريخ الملل والنحل، لنعرف أن قيمتي الظاهر والمستتر أصل أصيل في كل ملة ونحلة.

وقد كانت اليهودية التاريخية أكثر الفرق تمثلاً لهاتين الحقيقتين الجبريتين، ولعل الباطنية اليهودية قدمت لفرق الباطن الأُخرى الكثير من المفردات وطرق حماية الذات، حتى أنها بلغت منطقة الاعتقاد الجازم بقوة النخبة الصغيرة المنظمة الصبورة، وهذا ما يفسر مركزية الحضور اليهودي السياسي في عالمنا المعاصر، دون إنكار وجود يهوديات أُخرى مغايرة تماماً ليهودية النخب المسيطرة.

لكن هذا الاستنتاج لا يعفينا من النظر لعناصر التفوق والقوة التي تراكمت لديهم عبر أحقاب وقرون من مغالبة الآخر العدو، وفي المقدمة منها أوروبا المسيحية، لا العالم الإسلامي.

هنالك حيث وجدت اليهودية التاريخية ملاذاً آمناً، وحضوراً مُشاركاً، في الأندلس ومصر والعراق واليمن والمغرب، وغيرها من بلدان العرب. مراجعة متجددة لبروتوكولات حكماء صهيون نحن في أمس الحاجة لإدراك كُنهها وتاريخيتها وبراغماتيتها السياسية، فلا معنى للإدانة دون معرفة، ولا معنى للتداعي الحُر مع أحكام القيمة دون استسبار لما وراء الآكام، وهذا في تقديري ما كان يرمي إليه الراحل المجتهد عبدالوهاب المسيري، صاحب أكبر موسوعة عربية عن الصهيونية.

Email