هل انتهى ربيع العرب؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

يظل الجدل محتدماً في العالم العربي حول ماهية الربيع العربي، وما هي مصائره، وينبع مثل هذا الجدل المنطقي من النتائج الملموسة التي وصلت إليها بلدان الربيع العربي، المتمثلة في المزيد من الاحتقانات، والمشفوعة بقدر كبير من اللجاج السياسي والخرائب الاقتصادية والاجتماعية.

الذين تعاملوا مع الظاهرة بتفاؤلية رومانسية، لم يضعوا بعين الاعتبار قوانين التاريخ ونواميسه العاتية. ذلك أن للتاريخ قولته ومقولته، وللتاريخ قوانينه الموضوعية ذات الصلة بقوانين الأرض وحكمة السماء، وهي نواميس تجري في مسارها الخاص، غير مُعوِّلةٍ على تقديراتنا وتوقعاتنا وأمانينا، والشاهد أن تلك القوانين تتجسَّد أمامنا عياناً بياناً.

إذا افترضنا أن هزة أرضية عاتية دمَّرت مدينة كبرى من المدن، فما هو المتوقع؟ هل سيستمر الناس في مألوف عاداتهم اليومية، أم أننا سنشاهد ما لم نتخيَّله ونتوقعه من تصرفات جنونية؟ هل سيخرج من ساحات المدينة وحواريها وملحقاتها المُهمَّشة ملايين الصعاليك، من الذين سيفرحون بزوال الغطاء الأمني والقانوني للدولة، ليباشروا أعمال سلب ونهب، واعتداءات مكشوفة على العباد والبلاد؟ وإذا كان مثل هذا الأمر متوقعاً على مستوى الكوارث الطبيعية، فلماذا نستغرب أن يفضي الربيع العربي إلى فوضى تستتبع الانقلاب الجذري على ما استتبَّ بقوة الباطل والمصادرة، والدولة المركزية العنيدة التي لم ينجُ منها عربي سوى دولة الإمارات العربية المتحدة.

النموذج الفريد والوحيد للدولة الاتحادية اللا مركزية، التي حققت معجزة تنموية وإدارية توازنية، غير مألوفة في أربعة أرجاء عالم العرب المُبْتلى بالمركزيات الفجة، والأتوقراطيات المغطاة بأوراق سلوفان الجمهوريات الافتراضية، والحاكميات التاريخية القابعة في مربع ديمومتها المجافية لمنطق التاريخ؟

في مدن العواصف الطبيعية.. كما حدث في إعصاري "ريتا" و"كاترينا" بجنوب الولايات المتحدة، وجدنا أن الدَّهماء باشروا أعمال سلب ونهب؛ اقترنت بقدر من الغياب النسبي لمؤسسات الدولة، وكانت تلك بمثابة إشارة دقيقة لمعنى الانتقالات التي تحصل في المجتمعات البشرية عندما تغيب الدولة ويتعوَّم القانون، فما بالنا بتلك العاصفة المفاجئة العاتية التي عصفت بسلسلة من أنظمة العرب التليدة، وهي تتأرجح بين طرفي المعارضة غير الموحدة جوهراً وأصلاً، وإصرار النظام القديم على إبقاء الحال على ما كان عليه.

وسنستعين مرة أُخرى بقانون الطبيعة، لنرى أن العاصفة الاستوائية الطبيعية تُغير وجه الحياة في مناطق عَصْفها العاصف. لكن هذا التغيير يمر بمرحلتين: مرحلة تدمير مؤكد. يليها انبثاق شروط جديدة، لحياة متجددة؛ كما الحال في الفيض المائي النهري والمطري الذي يؤدي إلى خرائب لا مفر منها. لكن تلك الخرائب تُمثِّل المُعادل السحري لانبثاقة حياة جديدة ومتجددة.

مثل هذه القوانين تسري في المجتمعات البشرية، وهي تعبير أقصى عن حالة الصدمة الذهنية القادمة من ثنائية الوثوق الإنساني المستعجل للتغيير من جهة، وقانون التاريخ القاضي بجبرية الخراب قبل تسوية الأرض لمجرى الحياة الزاهية المأمولة من جهة أُخرى.

من حق الكثيرين أن يشعروا بخيبة أمل بالغة تجاه مآلات الربيع العربي، وذلك استناداً إلى الأماني والأمنيات الحالمة بمجتمع جديد يتلافى عيوب الماضي، لكن ذلك لا يمنعنا من القول إن المُتغيِّر الإصلاحي في العالم العربي قادم لا محالة، والمخاض العسير الذي تمر به الأمه يُعبِّر عن معنى السفر وفق قوانين التاريخ الموضوعية تلك التي ألهمت علماء الجدل الفلسفي الكبار، ومنه استمدوا التعاميم الفكرية الرائية للانتقالات الصاعدة في المجتمعات البشرية.

ولسنا هنا بصدد استعادة مثل تلك القوانين التي لم يخترعها أحد من المفكرين والعلماء، بل استمدوها حصراً وأساساً من القوانين الإلهية السارية في الطبيعة، والقادمة من اللا مكان واللا زمان. تلك القوانين لا تطال الطبيعة المجردة فحسب، بل الإنسان وتاريخه ومجتمعاته.. لأنه جزء لا يتجزأ من نواميس الجَبْر الإلهي التي لا مفر من الانصياع لها، طوعاً أو كرهاً.

الربيع العربي جاء عطفاً على الصدفة التاريخية التونسية، ذات الأصل الجوهري في ضرورات ومقدمات المجتمع الأمني، وفيما كانت تونس تغرق في لُجَّة الضرورة الموضوعية، بدأ السيناريو التونسي يعُم بقية الجمهوريات الأتوقراطية العربية، لنرى مشهداً مأساوياً وملهاوياً. يؤكد وحدة الموت والقتل والدمار، بدلاً من وحدة الحياة والنماء والازدهار. ذلك ما جرى ويجري في مصر واليمن وليبيا وسوريا والسودان، كما يعتمل في أُفق ما، في كامل المشهد البالي لمرابع عربية أُخرى تسبح في المياه الآسنة ذاتها.

يتوهَّم من يعتقد أن هنالك وصفة سحرية لنموذج دولة، ومؤسسة نظامية واحدة، ذلك أن النماذج القائمة في العالم تؤكد تماماً أنه لا وصفة سحرية للخروج من نفق التنافي العدمي، والظلام المستمر، سوى الابتكار، وحسن التعامل مع واقع الحال والمعطيات الخاصة في كل بلد.

نتعلَّم من الخبرة الإنسانية الصينية معنى تعايش ما يبدوا متناقضاً، فيما يكتمل بالصلاح والنماء، وإن لم يعتمد الوصفة الديمقراطية "الأورو أميركية"، كما نتعلم من تجربة الإمارات العربية الأكثر خصوصية في الأُفق الجغرافي والتاريخي العربي، معنى توسيع قاعدة ملعب المشاركة التنموية، الكفيل بالتذويب المنهجي لعوامل الجدب والاحتقان، وفتح الباب واسعاً لحلم يتحوَّل إلى واقع، ويحقق ما لم يتخيَّله أحد.

الربيع العربي لم ينته بعد، وما يحدث الآن يؤشر إلى خيبة التداعي الحر مع الأحلام الطوباوية التي استحكمت في عقول وأفئدة الكثيرين منا، لكنه لا يعني أبداً زوال الظاهرة التي تبدو لي بأنها تعيد إنتاج بعض عناصرها بزلزال مرتد، قد يؤدي إلى تسوية الملعب، وتدوير عناصر المشاركة والفعل، وفق قواعد جديدة تغادر قواعد الماضي القريب.

محنة الثقافة العربية التاريخية الدائمة تكمن في أننا صادرون عن نزعة غنائية، وأننا نقرأ التاريخ بروحية الحالم المُتفائل، وهكذا نُصاب بخيبات أمل وخبو معنوي. راجعوا إن شئتم أسفار حروب الخليج الأُولى والثانية والثالثة، وتمعَّنوا إن شئتم في مصائر الذين اعتقدوا أنهم ملكوا الدنيا ومن عليها، وما عليها.

رحم الله الزعيمين الحبيب بورقيبة وأنور السادات، فكلاهما استخدم العقل في لحظات حرجة من تاريخنا، وكلاهما نال من القدح والذم ما ناءت به الصحف. لكن الأيام أثبتت صحة ما ذهبا إليه، وتحديداً قرار تقسيم فلسطين الأممي بعد نكبة 1948م، واستعادة سيناء بعد حرب أكتوبر.

Email