سيكولوجيا الجماهير

ت + ت - الحجم الطبيعي

استعير هذا العنوان من كتاب فريد للعالم الموسوعي الفرنسي (جوستاف لوبون) وقد كتبه منذ عقود خلت، وتناول فيه ظاهرة جماهيرية تذكرني بما هو عليه الحال في بلدان الربيع العربي. لقد توقف لوبون أمام الحدث الزلزالي الذي شهدته فرنسا عندما ثارت الجماهير ضد النظام الملكي، واندفعت صوب سجن الباستيل الرهيب، لكنها، ويا لغرابة التاريخ، لم تجد سجيناً واحداً هناك، فقد حرص النظام الملكي على إعادة النظر في ذلك المعتقل العتيد، لكن تلك الخطوة الحكيمة جاءت متأخرة جداً، وأصبح تنازل النظام بمثابة ضوء أخضر للثورة الفرنسية العاتية.

يتابع جوستاف لوبون وصف الحالة السيكولوجية للجماهير المندفعة بعفوية مقرونة بصراخ الصارخين، ونعيق الناعقين، ونفير الديماغوجيين الفاقدين للبوصلة العقلية والذوقية، فتكشفت الثورة عن وجه مرعب؛ لقد أصبح خطيبها المفوه المغامر (روبسبيير) نموذجاً فاقعاً للقاتل الاعتيادي، فإذا بشعارات الثورة الفرنسية تتحول بين عشية وضحاها إلى مجازر، لم تتوقف إلا باعتقال وإعدام روبسبيير بالمقصلة ذاتها التي ابتكرها هو بالذات.

ما يهمنا في هذا العرض العابر لمرئيات عالم التاريخ والفكر جوستاف لوبون هو سيكولوجيا الجماهير، وكيف أنها توظف من قبل المتطرفين العدميين، وكيف تتحول هذه الجماهير من قوة بناء محتمل، إلى أداة تدمير مؤكد. حدث مثل هذا الأمر أيضاً في الثورات البلشفية الروسية والصينية الماوية، ولكن بكيفيات مختلفة. لكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال نهاية الظاهرة، فالنقلات الدراماتيكية في حياة الأمم والشعوب لا تصدر عن فراغ، ولا هي قرينة الأماني والآمال الطوباوية لفئة من الانتلجنسيا السياسية، ولا هي ظاهرة يمكن التنبؤ بحدوثها والحيلولة دونها، بل هي واحدة من نواميس التاريخ ومكره، كما أنه لا صدفة في التاريخ، فما يبدوا صدفة عابرة يحمل في طياته وتضاعيفه ضرورات مؤكدة.

إن ما حدث في أقصى الجنوب الصحراوي التونسي لم يكن مجرد صدفة، والشاهد انتشار الظاهرة كالنار في الهشيم، وتساقط سلسلة من الأنظمة العربية التي كنا نعتقد أنها محصنة بالجيوش الجرارة.

علماء الجدل الفلسفي وقفوا على سيكولوجيا الجماهير من زاويتي الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي، واستعانوا بعلم التاريخ ليستقرؤوا العلاقة بين الوجود المادي للبشر في علاقته بوعيهم النوعي تجاه الظواهر، وقد كان فيلسوف التاريخ والبرهان المادي (كارل ماركس) سباقاً في تبني تبعية الوعي للوجود، رائياً إلى الحياة المادية للبشر، بوصفها منطلق حياتهم الروحية وأساسها، لمكنه مع ذلك لم ينكر قابلية ارتداد الوعي على وجود البشر، بقدر إقراره بأسبقية الوجود، وبالمقابل كان فيلسوف الجدل (هيغل) من أنصار أولوية الوعي على الوجود المادي، رائياً للمعاني المجردة النابعة من القيم الأخلاقية والقناعات الميتافيزيقية، معتبراً توق الناس للكمال قيمة سابقة على تفاعلية الوعي بالوجود.

هاتان المقولتان الفلسفيتان تضعنا أمام المعنى العميق لمشاعر الناس وما يتوقون إليه، وما يرونه قابلاً للتحقيق، لكنها إلى ذلك تفسر ضمناً النتائج المحتملة للمتغير الجذري في المجتمعات البشرية، ومن تلك النتائج العنف الأهوج، والاستعادات ما فوق الواقعية لعناصر كانت خابية في الوعي الجمعي، ثم انبثقت كما لو أنها تنين يلتهم الأخضر واليابس. والأفدح من هذا وذاك أنها تؤشر لبعض السلوكيات الحياتية ذات النفس المفارق للعقل والمنطق!

اليوم نضع مثل هذا السؤال القلق، ونحن نتابع مآلات الربيع العربي في أفق الانسداد السياسي والاحتقانات المجتمعية البادية للعيان في أكثر من ساحة سياسية ومجتمعية عربية، ونقف أيضاً وضمناً على المسافة الحادة التي تصل وتفصل بين الثابت والمتحول في مجتمعاتنا العربية، ممسكين بتوقعات (ابن خلدون) العبقرية الذي قرأ الجغرافيا السياسية التاريخية العربية من منظور المركزية العصبوية التي تعيد إنتاج نفسها على مدى السنين والقرون، وكأنها قدر مقدور لا فكاك لنا منه.

تحدث ابن خلدون عن سيكولوجيا الجماهير بلغته الخاصة، وأشار بالبنان لمخزون اللاوعي الجمعي المقرون بجغرافية المكان ونواميس الزمان، وكان أول القدريين القائلين بالحتمية الجبرية في علم نشوء وازدهار وانحسار الدول.

حقاً.. إن ما جرى ويجري في المنطقة العربية لا يمكن استكناه كنهه وجوهره من مجرد النظر لرقعة الشطرنج المترجرجة في عالمنا العربي، ولا من منظور المؤامرات المقبلة من أعالي البحار، بل من خلال التركيبة التاريخية المنعكسة على الوعي الجمعي المعانق للوجدان والحماس والتطيرات، والرافض للعقلانية والبرهان المادي البسيط.

تعيد الأزمة الشاملة إنتاج نفسها عربياً لتقول لنا إن الدرب نحو الرحابة مازال طويلاً، وإننا ما لم ننعتق من أسر قيودنا الذاتية لن نتمكن من مجرد الحلم بمجتمع ألفي فاضل، وأننا سنظل قابعين في مربع خيباتنا التي كالجينات المدمرة، ما دمنا نغرد خارج السرب الإنساني السوي.

نحن بحاجة إلى قراءة ممعنة لمفكري التاريخ والرؤى والديانات والعقائد والملل والنحل، لنعرف ذواتنا، ونشاهد عرينا الفاضح أمام مرآة الحقيقة.

Email