مراجعة حكيمة أم تراجع جبان؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

من جديد تطل الأزمة المالية الدولية برأسها في تأكيد مُتجدد على أن النظام النقدي الدولي بحاجة إلى إعادة نظر مؤكدة؛ وفي أُفق مُتَّصل تظل الولايات المتحدة رأس الحربة في المعادلة، ذلك أن الاقتصاد الأمريكي ليس أقوى اقتصاد في العالم فحسب، بل هو أكثر الاقتصادات الدولية تشابكاً وتداخلاً مع الاقتصاد العالمي.

ولعل مركزية الدولار في سلة العملات الصعبة خير شاهد على ذلك، فالولايات المتحدة لا تطبع عملتها من أجل الداخل الأميركي ومقتضيات اقتصاده فقط، بل أيضاً من أجل التبادل التجاري والاستثماري الدولي الذي يتربَّع الدولار في قلبه، بوصفه عملة التبادل الأكثر تداولاً في التجارة والاستثمار الدوليين.

من هنا نرى أن الدولار الأميركي مازال يحتفظ بمكانته المركزية في جُل اقتصاديات العالم، ولعلنا نستثني بعض البلدان ذات المقدمات والطبيعة الخاصة، كما هي الحال وعلى سبيل المثال، في بلد كالصين، يتوفَّر على زخم نمائي فريد المثال، ووفورات في عملات التبادل الدولي تجعله في المركز الأول عالمياً، وحيوية اقتصادية وتجارية أذهلت الجميع.

كما سنجد ذات الحال في روسيا التي تتمتَّع بأقوى اقتصاد ريعي في العالم، وهو الأمر الذي جعل منها اقتصاد كفاية بالمعنى الدقيق للكلمة، وسنجد في أُفق آخر بريطانيا المتميزة بتدابيرها الحمائية الخاصة بعملتها العتيدة "الجنيه البريطاني"، حتى أنها رفضت بثبات الالتحاق بسوق عملة اليورو.

اليوم تعيد الأزمة المالية الدولية بوادر عودتها غير المحمودة، من خلال الصراع المحموم بين الجمهوريين والديمقراطيين، فالديمقراطيون لا يريدون التخلِّي عن سياسات الحماية الاجتماعية للفقراء وذوي الدخل المحدود، والمهاجرين غير المُشرعنين؛ ونظام الخدمات الصحية الجديد. وبالمقابل الجمهوريون يرفضون أي تخلٍ إجرائيٍ وقانوني عن ما عُرفت به الولايات المتحدة في رأسماليتها التاريخية المنغمسة في الحروب والمبادآت.

والإيمان المطلق بأن هذه السياسة هي الكفيلة بتأكيد المركزية العالمية للولايات المتحدة، بل إن البعض يشطح في استيهاماته الإيديولوجية الدينية، مُقررين أن الله هو الذي منح الولايات المتحدة هذه المكانة، وأوكل لها هذا الدور! بمراجعة سريعة لسياسات المحافظين الجمهوريين خلال العقود الثلاثة الماضية ستنتصب أمامنا عناوين فاجعة، أولها حربا العراق وأفغانستان.

وعلى الدرب حملة "إعادة الأمل" الفاشلة في الصومال، وفي القلب من كل ذلك الفشل في تحريك دولاب التسوية السلمية في الشرق الأوسط بسبب الانحياز السافر لإسرائيل، حتى إن الولايات المتحدة انفردت أكثر من مرة بالتصويت ضد القضية الفلسطينية، ومعها دويلة "ميكرونيزا" غير المعروفة في كل العالم.

وبعدها مباشرة جاءت أحداث سبتمبر الإجرامية لتفتح الباب أمام متوالية السياسات الأربع الكبرى للجمهوريين الجدد، وهي إعادة برنامج حرب النجوم الريغاني، تحت مُسمَّى الشرق الأوسط الجديد والمبادأة الاستراتيجية، وثانيها الحرب العالمية المفتوحة ضد الإرهاب المُعلَّب الذي مازال يتغذَّى من الغرف السريَّة لصانعي الفوضى غير الخلاقة.

وثالثها انكشاف الملايين من فقراء الداخل الأميركي على جنون الحرية المالية، وصولاً إلى الانكشاف المرعب في ديون الرهون العقارية التريليونية، وأخيراً وليس آخرا التبنِّي المريب للإسلام السياسي في المنطقة العربية.

تلك الممارسات حدَت بالعقل الجمعي في الداخل الأميركي إلى العمل على مواجهة الحقائق، ولهذا وجدنا الديمقراطيين في حالة مراجعة حكيمة لا تراجع جبان كما يزعم العتاة، لكن هذه المراجعات لا تروق لليمين الريغاني، وقد بدأوا في افتعال أزمة داخلية، عنوانها.

. منع تطبيق قانون إصلاح الخدمات الطبية، ومآلاتها تعطيل جملة القوانين الإصلاحية المحتملة. هذا وقد عبر الرئيس الأميركي أوباما، عن معنى التحدي الداخلي الجديد الذي تواجهها إدارته، مُشيراً لمُشرعي اليمين المحافظ، الباحثين عن تسميم الحياة والسلم الاجتماعيين، فهؤلاء يقفون عن حد التراجع القسري عن الإصلاح، ولا مانع لديهم بعد ذلك من إشهار مفردات أُخرى تتجاوز الخدمات إلى مستويات جديدة غير مألوفة.

الآن تواجه الولايات المتحدة تحدياً غير مسبوق، فتعليق رواتب ملايين الأميركيين، وإجبارهم على إجازات من دون راتب، وتجفيف منابع الدعم الاجتماعي لملايين الفقراء، من شأنه أن يعيد الولايات المتحدة إلى مربع تجاوزته من أمد بعيد. ذلك التحدي لا يضر الداخل الأميركي فحسب، بل الاقتصاد الدولي برمته، فالولايات المتحدة هي المساهم رقم واحد في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهي صانعة العملة التجارية الدولية الأولى، والضامنة المعنوية لها، وهي صاحبة المؤسسة العسكرية الاستراتيجية الأكبر في العالم،.

وهي منصة البيئة الثقافية الفنية المنتشرة على وجه الكرة الأرضية، وهي مصدر للخير العميم حيناً، وللشر المستطير أحايين أُخرى. لهذه الأسباب مجتمعة يتمنى العالم أن تنعتق الولايات المتحدة من جنون اليمين المتوحش، واستتباعاته الإيديولوجية الخطيرة.

 

Email