اليمن وخيار الدولة الفيدرالية

ت + ت - الحجم الطبيعي

العناوين الرئيسية في الساحة اليمنية هذه الأيام، تؤشر إلى بدايات العد التنازلي لعهد مؤهل للخبو والتلاشي من جهة، وللنجاح والانتقال المظفر من جهة أخرى.. وهنالك محاولات مستميتة لدى بعض الأطراف لتمديد الماضي. وحتى نضع النقاط على الحروف لا بأس من تحديد معالم القول، وتفسير الكلام السابق، فالعهد الذي بدأ يتلاشى معنوياً مقرون بتتويج مؤتمر المصالحة الوطنية على قاعدة التغيير.

وتحت بند التغيير تتحدد معالم المغادرة التامة لما كان في الماضي القريب، وترجمة رغبات المواطنين في عهد جديد مزاجه الدولة الاتحادية اللامركزية، ومداهُ إطلاق العنان للتنمية المشمولة بالمواطنة المتساوية، والمشاركة المقرونة بحرية المبادرة والتسيير، وعلى كافة المستويات. ذلك أمر يتناقض جوهرياً مع بعض الرؤى غير المواكبة لمقتضيات العصر والمستقبل، والتي تكوَّنت على مدى عقود من البؤس والضلالات..

ومن البديهي أن يتمسك سَدنة ذلك الماضي البائس بتلك الرؤى، وأن يراهنوا على تعطيل مسيرة التغيير، ولهذا قلنا إن المعادلة اليمنية الراهنة تتَّسم بمستويين احتماليين: الأول يتعلق بإعادة تكريس الماضي، وهو أمر يستحيل تماماً، قياساً بما جرى في الساحة اليمنية على مدى السنتين الماضيتين، وتحمُّل المواطنين لكل أشكال الاستباحة المعنوية والنفسية، من خلال تعطيل الخدمات، والمزيد من الإفقار.

. وفي المقابل ليس الدرب سهلاً وسالكاً لتغيير يلبي الطموحات المشروعة، وما يستحقه اليمانيون الذين صبروا وصابروا، وأثبتوا لكل العالم أنهم أبعد ما يكونون عن الهمجية والعنف المجاني، قياساً بخروجهم العاتي الذي جرى على أساس من السلمية التامة، رغماً عن خدوشات وتجاوزات الفاعلين لتراجيديا الموت المجاني.

اليوم وبعد كل هذا الصبر، لا يمكن للجماهير المسحوقة بالباطل أن تقبل بأقل من التغيير المطلوب، والذي تتبلور ملامحه على كل المستويات، وخاصة في ما يتعلق بالملفات الأثقل والأخطر، وأبرزها شكل الدولة الجديدة، والقضية الجنوبية، ومعالجة مشكلة صعدة، وكامل المظالم المُتقادمة في مختلف المناطق اليمنية شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً.

لن يسير التغيير المطلوب ناعماً ومتتالياً كما يتمنَّى الجميع، بل إن الصعوبات الماثلة تزداد عنفواناً وتطاولاً، فالمقيمون في مألوفات أحوالهم يُصعِّدون، ويتعمَّدون التسخين، بحثاً عن خلط متجدد للأوراق، والشواهد على ذلك أكثر من أن تُعد.

وهذا التطرف الذي يتم الحديث عنه بمخاتلة مكشوفة، يُقدم وجهاً واحداً من الصورة، ويتغافل عن الوجه الآخر، فالعدميون القتلة يُدارون من غرف مُظلمة، لا صلة لها بجوهر نزعاتهم "الطُّهرانية" "المرمونية" القريبة من منطق "شهود ياهوه" التاريخيين، ممن يعتبرون كل قيمة عصرية مناقضة للإيمان الديني.

الطائفة المرمونية هي طائفة مسيحية خرجت من أعطاف البروتستانتية الأنغليكانية المتطرفة، وتعتقد أن كل تغيير يتعارض مع جوهر الإيمان الديني، ومن هنا تتمسك بنزعة الاصطفاء الديني الذي يعتقد به اليهود من أنصار "شهود ياهوه"، وترفض أسباب التغيير الذي تفرضه العوامل الموضوعية.

إنها ذات الحالة التي يعاني منها الجهاديون "الطُّهرانيون" الطالبانيون، الرافضون لكل جديد، ولا أريد هنا التوقف طويلاً أمام قصة "المرمون" و"شهود ياهوه"، ولكنني أشير تحديداً إلى "إسلاميينا" الذين ينحدرون من ذات المصدر، ويلعقون رحيق سمومهم من نفس المائدة.

الآن يستمر الجدل ليدخل انعطافة ساخنة، وبمراهنة مكشوفة على التراجع، بوصفه حتمية في أذهان عرَّابيها وصُنَّاعها الحالمين بعودة الماضي، دونما تمعُّن وإدراكٍ لنواميس التاريخ غير القابلة لهذا الشكل من العودة الكوموتراجيدية. وفي المقابل يحتار الحالمون المتفائلون أمام هذا الخلط المُتعمَّد للأوراق، فيما تتهيأ الساحة لسيناريوهات غامضة، وكثيراً من الحيرة وفقدان الحيلة.. فما العمل؟

تتلخص سيناريوهات المخرج الجوهري لمحنة الدولة اليمنية السابقة، في خيارين بارزين. ينص الأول على فيدرالية من إقليمين شمالي وجنوبي، وتتأسَّس هذه الفكرة على الحقيقة الموضوعية التاريخية التي مهَّدت للوحدة اليمنية الراهنة..

لكن التوق الوحدوي والحلم الجميل تكَّسرا تحت أقدام العتاة الموهومين، ممن قاموا بترفيس وتدمير القيم النبيلة التي حَدَتْ بالقوى السياسية والمجتمعية إلى هذا التوق العظيم، فكان لزاماً تصحيح مسار الوحدة من خلال ذات المكونين السابقين، ولكن بصيغة تحافظ على جوهر الوحدة، ولا تمنع التقدم إلى الأمام في شكل المؤسسة، وقابليات حضورها الأفقي، بالترافق مع استحقاقات العصر التي لا مفر منها.

الفيدرالية اليمنية من إقليمين لن تعيد دولتي اليمن الديمقراطية الشعبية، والجمهورية العربية اليمنية، وفي المقابل لن تتعارض جوهرياً مع مشروع الفيدرالية من 4 أقاليم جنوبية وشمالية، ولن تكون مشابهة لوحدة مايو الخائبة. هذا الخيار يجمع عليه فرقاء الحراك الجنوبي بنسبة عالية، ولا يغرد خارج هذا السرب سوى البعض ممن يعتقدون أن التاريخ يعيد إنتاج نفسه بصورة ميكانيكية.

أما الخيار الثاني فيتمثَّل في دولة فيدرالية يمنية من أربعة أقاليم؛ إقليمين شماليين، وإقليمين جنوبيين. وهذا الخيار يجمع عليه فرقاء في الساحتين الافتراضيتين للشمال والجنوب، ولا يختلف من حيث الجوهر عن سابقه الثنائي.. لكنه يتقدَّم على خط نزع فتيل المشاكل التاريخية التي سادت دولتي الشمال والجنوب السابقتين على الوحدة.

حيث تغوَّلت العصبيات على مقدرات مؤسسات دولتي الشمال والجنوب، وكان من تحصيل الحاصل، هيمنة تلك العصبيات القبائلية على القرار السياسي الذي انحرف بمؤسسة القوة في الجنوب، وبمؤسستي القوة والمال في الشمال.

وبهذه الروافع المُنكسرة قامت وحدة مايو الخائبة، فقد توازت العصبيتان المُتعصبتان حد التقطير، ولم تمض أيام من احتفال الهروب إلى الأمام، حتى بدأ التمترس العصبوي الذي جاء لصالح البراغماتية العاميَّة لسادة الحكم والحاكمية الظالمة، فكانت حرب الوحدة والانفصال عام 1994 ترجماناً صاعقاً للمحنة.

وبداية للسير على درب الاستباحة والعنف النفسي الذي وقع على المواطنين، فتبارت قوى الضلال والظلام في السقوط الحُر إلى مستنقع الحروب الساخنة والباردة، وكانت محنتا الجنوب وصعدة خير شاهد على ذروة النتائج الوخيمة لسياسات الإدراة بالأزمة، والوقيعة بين الفرقاء، واستسهال التعامل مع الحقائق الموضوعية.

تلك المقدمات هي التي صنعت المخرج العاقل عبر المبادرة الخليجية، وهي السبب الأكبر في ضرورة التغيير، وهي التميهد الدال على معنى مؤتمر الحوار الوطني، المشارف على وضع خواتم لمساته حول معنى الدولة الاتحادية.

لقد أزفت ساعة الحقيقة، وليس أمام العقل الواعي سوى الاستجابة لمقتضيات المستقبل وضرورات التاريخ، ومن يتأبَّى على الالتحاق بتلك الحقيقة، سيجد نفسه في مكان كئيب من دهاء التاريخ ومكره.

 

Email