هل يقدّم اليمن مأثرة غير مسبوقة عربياً؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا تم إنجاز المهام المتعلقة بمؤتمر الحوار الوطني اليمني في الثامن عشر من سبتمبر الجاري، كما هو مخطط، فإن اليمن يكون قد اجترح مأثرة غير مسبوقة في العالم العربي. فالتوافقية السياسية اليمنية التي تساوقت مع مرئيات المبادرة الخليجية، دللت على درجة كبيرة من الحكمة والاعتبار من مآسي الماضي القريب.

كما دللت على أن اليمانيين قادرون على تجاوز جراحاتهم، والانفتاح على قوانين المستقبل القاضية بالتغيير، ولا شيء سوى التغيير. وتلك مهمة كبيرة انتصبت أمام المشاركين في الحوار الوطني الشامل، وأثبتت جدوى المكاشفة والصراحة والتحاور، بدلاً من التمترسات والتعصبات، المقرونة بقدر كبير من الاستيهامات ومحاربة الذات قبل الآخر.

خلال الأشهر الستة الماضية سارت الأمور قدماً إلى الأمام، وتبارزت الرؤى والأقلام والعقول، وتفتَّقت الأفكار والمرئيات عن مستجدات لم تكن تدور في خلد أحد، وتسابق الحضور المشارك، بتنويعات واجتهادات طالت القضايا المركزية التي لا بد من أن تحل على قاعدة الإقرار المسبق بالمظالم، والشروع العملي في الحلول، والانتقال بالخطاب من الوعود المجردة إلى التنفيذ العملي الملموس.

كما حدث أخيراً مع المُسرَّحين قسراً من المؤسسات العسكرية في الجنوب، ويليهم زملاء التسريح المجاني، وخارج النظام والقانون، من المؤسسات المدنية الجنوبية، ويلي ذلك تسوية مشكلة الأراضي الخاصة بالمواطنين في المحافظات الجنوبية.

وكذا أراضي الدولة ومنشآتها التي استبيحت من قبل بعض المتنفذين المعروفين اسماً ورسماً. الخطوات المتعلقة بالجنوب تتكامل مع خطوات موازية على خط صعدة، التي ما زالت تنتظر جبر الضرر لمن حاقت بهم ويلات الحروب الست.

كما أن المطالب الحقوقية لكثرة كاثرة من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، تمثل السياج الحمائي الحقيقي للذهاب بعيداً في تحربة المشاركة المقرونة بالمواطنة القانونية والتنافس الحر، في إطار دولة اتحادية جديدة، ستغادر المركزية القروسطية مرة واحدة وإلى الأبد. القرار الحكيم الذي اتخذه الرئيس عبد ربه منصور هادي، والذي انتقل بالقضية الجنوبية من المجرد إلى الملموس، له دلالات وأبعاد كثيرة.

ذلك أن إعادة مئات العسكريين المتقاعدين قسراً وخارج القانون، اعتراف ساطع بذلك التجاوز الذي جاء بعيد حرب الوحدة والانفصال المشؤومة، كما أنها مقدمة ناجزة لمباشرة إصدار القرارات الموازية، الخاصة المُسرَّحين المدنيين من أعمالهم، خارج نطاق القانون. كما أن الخطوتين الخاصتين بعودة المُسرَّحين من مدنيين وعسكريين، تشكلان المدخل لمباشرة حلحلة ملف الأراضي في المحافظات الجنوبية.

وهو ملف يرتبط حصراً بأراضي الدولة البيضاء، المنهوبة من طرف المتنفذين، وبفرمانات ألحقت النظام والقانون بغرور المركزية السلطوية، المُفارقة لمعنى النظام والقانون. وإلى ذلك، من الأهمية بمكان تسليم موظفي الدولة الأراضي المخططة والتي دفعت أثمانها من قبلهم، وصارت لاحقاً إقطاعيات لمن باشروا انتهاك كامل القوانين والأعراف والقيم.

هذه المنظومة من القرارات الصادرة والموعودة، تُشكِّل بجملتها رافداً كبيراً لنجاح الحوار الوطني المُطالب، أيضاً وأساساً، بتوافق عاجل على شكل الدولة الاتحادية اليمنية، التي تؤكد على اليمن الواحد وإن تعددت الأنظمة والأقاليم.

وبهذا يكون الرئيس منصور، ومن يقف معه على خط الحكمة، قد أنجزوا ما وعدوا به. لكن بعضاً من الرافضين للإصلاح، المقيمين في أوهام اليقظة، سيناورون ويدارون وسيسعون، ما أمكنهم ذلك، إلى تعطيل السير قدماً نحو النجاح والفلاح.

قراءة متأنية لتجربة السنتين الماضيتين، تؤشر إلى أن المكاسب الماثلة مهمة على قلتها، ومُهمة رغم أنها لا ترضي أماني الحالمين بتغيير أكثر فاعلية وجذرية.

سار الحوار الوطني، رغم مراهنات البعض على إفشال المسيرة وتعطيل المسار، ومغالبة التاريخ ونواميسه. فقد شهدت الساحة اليمنية على مدى سنتين من الأنين والألم، تعطيلاً مُتعمداً للخدمات العامة، واعتداءات متكررة على أبراج الكهرباء وخطوط الضغط العالي.

وتفجيرات متتالية لأنابيب النفط والغاز، وأشكالاً من القرصنة البرية، وقطع خطوط المواصلات، وسلسلة من الاعتداءات الإجرامية التي مات فيها الضحايا الأبرياء، فيما ظل القتلة مختفين من وجه العدالة، مَحميين من قبل مدبري الخرائب، وكان الاستهداف المنظَّم للقيادات الأمنية والعسكرية تعبيراً موازياً للمتاهة، فيما استمرت المكايدات السياسية في حكومة الوفاق الوطني.. والأدهى والأمر، ذلك القدر الكبير من التفلُّت الإعلامي المحكوم بالتحريض والكراهية والكذب البواح.

إن النتيجة المباشرة لهذه المصفوفة القاتلة من الأفعال، تمثَّل في الشعور باليأس عند الناس، وكأن الماضي هو الوعد الدائم، والمستقبل موت قائم، ومجرد الحلم بالانتقال نحو المجتمع العادل، أضغاث أحلام ستبقى في أذهان من يحلمون بها. خلال فترة انعقاد مؤتمر الحوار الوطني، نجح أغلب اللجان العاملة في الوصول إلى مرئيات مشتركة.

وكان هنالك بعض العقبات الجادة، كما هو الحال بالنسبة للقضية الجنوبية.. لكن التدابير الجديدة التي اتخذت في إطار المؤتمر وخارجه، أثبتت النية القائمة والحرص على حلحلة هذه المشكلة المركزية، حيث تمَّ تشكيل لجنة "ثمانية زائد ثمانية" المعنية بتقديم الحلول العاجلة المباشرة والعملية، لما تم الاتفاق عليه حول المسألة الجنوبية.

وفيما يتصل بشكل الدولة الاتحادية القادمة، يتجه أغلب الآراء نحو بناء دولة اتحادية من إقليمين في الشمال والجنوب، وستركز في مقدمات منطقيتها وضرورتها، على المرجعية اليمنية التي فاضت بالوحدة الحلم، لا الوحدة الإلحاقية ضيِّقة الأفق. وستكون التميمة السحرية لمشروع الدولة الجديدة، متناسبة مع عبقرية الاختيار (نظامين وإقليمين في إطار اليمن الواحد).

والإقليمان في إطار تعددية فيدرالية داخلية لكل إقليم، بما يُمثِّل ترميزاً مبتكراً لكيفية صيانة الوحدة والتعدد، والوفاء للتاريخ في ضمن المعنى الحقيقي الذي حدا بكامل المشاريع السياسية اليمنية إلى تبنِّي مشروع الوحدة، من أجل مستقبل أبهى وأجمل.

وبالإضافة إلى تفعيل الحوار داخل لجنة "ثمانية زائد ثمانية"، يباشر مجلس الوزراء الإجراءات التنفيذية الخاصة بما تمَّ الاتفاق عليه، وتأجَّل لأسباب بيروقراطية صرفة، كما تعمل اللجان التنفيذية ليل نهار للوصول إلى تحديدات واضحة المعالم للبُعدين التنفيذي والإجرائي، وكلاهما ملزمان للحكومة وهيئات ومؤسسات الدولة المعنية بالأمر.

إذا أنجزت هذه الخطوات العملية خلال الأيام القليلة المقبلة، تكون المرحلة التالية للحوار الوطني قد وجدت لها طريقاً مرصوفاً نحو الدستور والانتخابات البرلمانية والرئاسية، فيما سيشكل الدستور الجديد حاملاً أساسياً لليمن الموعود.

 

Email