توقعات وتنبؤات افتراضية

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا أريد بهذا المقال إرعاب القراء الكرام، أو المبالغة في تقدير واقع الحال المشهود في المعركة الدبلوماسية المحمومة بين البيت الأبيض والكريملن، وهو أمر يعرفه الجميع.. بل أُريد استعادة بعض المحطات التي قرأتها منذ زمن بعيد، وهي في المحصلة تنتمي إلى ما يُسمى في الآداب الدينية والميتافيزيقية بالنبوءات، أو التوقعات.

وما لفت نظري منذ تلك القراءات المبكرة، هو التشابه الكبير في توقعات ونبوءات من تجشَّموا عناء الخوض في أمر المستقبل، لكن، والحق يُقال، إن نفراً منهم ربط أقواله بنصوص دينية، وأحاديث نبوية لا يأتيها الباطل، كما هو الحال عند ابن كثير المؤرخ، فيما اجتهد آخرون بالرغم من صدورهم الضمني عن النصوص الدينية السالفة، على مقارباتهم التي تحتمل الخطأ والصواب.

مثل هذه التوقعات والنبوءات المُرعبة وردت عند الحواري "يوحنا الناصري"، الذي تحدث في إنجيله (إنجيل يوحنا) عن وقائع الحرب الأخيرة التي سيليها الحساب والعقاب الإلهي للضالين والمارقين. وكنت قد قرأت نسخة الإنجيل تلك باللغة الرومانية المنحدرة من عائلة اللغات اللاتينية، وهو أمر يمنحها فرصة استثنائية في تقديم المعاني التي أرادها يوحنا الناصري.

وما زلت أتذكر صور الأهوال المقرونة بتلك الحروب العاتية، وكيف أن "طيوراً من أجسام معدنية سترمي الناس بالحمم، وسيلجأون إلى الأنفاق والمغارات الجبلية، هرباً من جحيم النيران، فيما يتمنَّى البعض منهم الموت ولا يلاقونه"، مما يذكرني برائعة من روائع المتنبي القائل:

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا * وحسب المنايا أن يكُنَّ أمانيا.

على خط متصل، وردت في توقعات الفلكي وعالم الرياضيات الفرنسي المثير للجدل "نوستراداموس"، نصوص شعرية غامضة بعنوان "القرون"، ومن حسن حظي أنني قرأتها بالرومانية أيضاً، واللصيقة بالفرنسية (لغة نوستراداموس)، كما الإيطالية والإسبانية والبرتغالية، حيث وردت فيها أوصاف وشواهد لمقدمات المعركة التوراتية الهرمجدونية القادمة..

والواضح أن نوستراداموس اطَّلع على الآداب النبوئية السابقة على عصره، والدليل على ذلك، تلك المقاربات الغامضة ذات الصلة بالآداب اليهودية والمسيحية، ممَّا لسنا بصدد تفصيله هنا. لكن الجدير بالإشارة أنه تحدَّث عن معارك كبيرة، وحدد معالمها العامة، ومواقعها الافتراضية.

في الآداب الإسلامية نتوقَّف أمام كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير، وما يتعلق منه بعلامات الساعة الكبرى والصغرى. وقد أرجع ابن كثير ما ذهب إليه، إلى الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)، ويمكن مراجعة الإشارات النبويَّة الخاصة بعلامات الساعة الصغرى والكبرى. والمدهش حقاً هو ما يتعلق منها بالمعركة الكبرى، التي يحددها ابن كثير في المنطقة ما بين حلب وأنطاكية (سوريا وتركيا الحاليتين)!

نأتي أخيراً على "كتاب الظهور" الذي يعتمده المسلمون الشيعة، وهو في الغالب الأعم مُجيَّر على سرديات دائرية مَلحميَّة، تصف لنا معارك شاملة، تتمدَّد في الجزيرة العربية والشام، وتنخرط فيها أُممٌ كثيرة، وتُمهد لظهور الإمام الغائب الذي سيهزم الأعداء.. لكن متوالية الحروب النبوئية في كتاب الظهور، يختلط فيها المكان المحدد بالمكان العالمي، وتنطوي على قدر كبير من الغوامض والمقترحات السردية الأقرب إلى الميثولوجيا الإغريقية على عهد هوميروس.

أحببت الكتابة عن هذه الحقائق المخلوطة بالاستيهامات، لوجود من يعتقدون بها في هذا الزمان، فالأنغليكانيون الخارجون من رحم البروتستانتية التاريخية الأكثر تشدداً وانغماساً في نظرية "الاصطفاء العِرقي"، يعتقدون ذلك، وها هو الراحل "ريغان" ونسخته الأحدث "بوش الابن"، يصرحان جهاراً نهاراً بأنهما على موعد مع المعركة الكبرى في "هرمجدون" ليتمثَّلوا إرادة الله الذي شاءَ أن يكون ذلك..!

وهنالك طوائف أخرى أكثر حدة وشراسة في الاقتناع بهذه التوقُّعات، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، الطائفة "المورمونية" الصغيرة في الولايات المتحدة، والتي تقدم نفسها كطائفة من الطوائف المسيحية، لكنها إلى ذلك تلتزم بنمط "تطهري" خاص في حياتها، ونظرتها للعلاقة مع الآخرين أقرب ما تكون إلى بعض الطوائف اليهودية.

ومن المفارقات التي أرعبت المراقبين حول هذه الطائفة بالذات، لجوء الجمهوريين لترشيح منافس رئاسي مورموني في الانتخابات الأولى للرئيس الحالي باراك أوباما. يومها وضع العليمون بدهاليز الملل والنِحل أكفهم على صدورهم، مُتمنين من الله أن ينصر أوباما في المعركة الرئاسية، وأن ينهزم المرشح الجمهوري المورموني، وهذا ما كان.

إن استعادة هذه التوقعات ليست محل نظرنا الخاص في هذا التناول، بل الخوف كل الخوف من ذلك النفر الذين يعتقدون بهذه الرؤى والتوقعات، دونما تمحيص ونظر.. خاصةً عندما تكون تلك "القناعات الإيمانية" صادرة عن اجتهادات بشرية محضة، وتختلط فيها الأوهام بالتخريجات الضبابية، ويتبنَّاها بعض كبار القادة.

 

Email