منذ أن هبت رياح ما تعارف عليه بالربيع العربي، الذي استبشر به شباب تونس ومصر واليمن وسوريا خيراً وأملاً وتطلعاً، حيث امتلأت الميادين والساحات بأرتال من الشباب الذين باتوا ليالي طوالا في العراء، ليرسموا بعرق جبينهم جدارية تعبر عن رؤية لمستقبل مجتمعات جديدة، ترفرف فيها رايات الانعتاق من سيطرة النظم التي خرجوا عليها، ولم تمضِ شهور حتى راحت الرياح تهب في الاتجاه المعاكس.
وبدأت تلوح في الأفق البدايات الأولى لنظرية المؤامرة، فتغيرت صورة ثورة الربيع إلى خريف مع تزايد أعداد الشهداء، وأصبح الناس في عواصم هذه الدول يشاهدون "مسرحيات" تعرض في الميادين العامة، أبطالها زمر من شذاذ الآفاق الذين سرقوا الثورات في وضح النهار، مما أدى إلى الشعور بالخيبة والانكسار.
في هذه الظروف الاستثنائية أدار الناس ظهورهم للقنوات الإخبارية، هرباً من أنباء لا تحمل معها إلا رائحة الدم المسفوح والأعيرة النارية وقنابل المولوتوف.. وكان الملاذ إلى المسلسلات المدبلجة التي دخلت البيوت من جميع المداخل.. نزيف من قضايا ومشكلات يتم تأليفها ويتولى كتابتها أدعياء ثقافة ومأجورون.
وظيفتهم اختلاق مواقف درامية مشحونة بالإثارة، لدغدغة مشاعر مشاهدين أغلبيتهم الساحقة، من رجال ونساء، أميون أو أنصاف أميين، يبحثون عن الوسائل التي تنأى بهم من إيقاع الحياة الروتيني وأعباء معيشية ترهق كواهلهم، وآخرون ممن يجدون أنفسهم في قلب المشكلات العاطفية التي تجري بها ومعها حلقات المسلسل، وهكذا يصبح المسلسل حقنة مخدرة لتخفيف معاناة ذاتية مكبوتة في دواخل النفس.
يرى بعض علماء النفس أن الإنسان، أي إنسان، لا يخلو من مشكلة، وأن أغلبية الناس لا يبوحون بأوجاعهم الشخصية، وحتى لا يقع ضحية المتاعب يسعى الفرد لمن يعينه على الحل، فهنالك من يلجأ للمشعوذين وقارئي الكف والفنجان لمعرفة ماذا تخبئه له الأقدار، وهنالك من يبوح بمكنون نفسه إلى صديق أو صديقة لتعينه أو تعينها على ما استعصى من حلول..
وهناك من يكتم أسراره ولا يبوح إطلاقاً بمشكلاته، باعتقاد راسخ أن لا أحد يكتم السر إذا خرج من صاحبه.. والبقية الباقية ترى أن المسلسلات تمثل عيادات نفسية، وكل من لديه مشكلة عاطفية أو نفسية أو اجتماعية، يجد فيها حلاً ولو مؤقتاً لما يعانيه من مشكلات. وهؤلاء يمثلون قطاعاً عريضاً يضم معظم شرائح المجتمع، من مدمني مشاهدة المسلسلات المدبلجة التي يشاهدها ملايين البشر من المحيط حتى الخليج، بل في معظم دول العالم الثالث.
كان المشاهد طوال حقب السبعينات يتابع الأفلام السينمائية المأخوذة من روايات عالمية أو روايات لكتاب مرموقين، يتولى أحد كتاب السيناريو تحويلها إلى نص ليتم تصويره في أحد الاستوديوهات،.
ويستكمل بعض المشاهد خارج الاستوديو، ومازال الناس يذكرون تلك الأفلام الرائعة التي أبدع رهط من الممثلين في لعب أدوار البطولة فيها بمهنية والتزام بقواعد العمل الفني، وقد ذاع صيت عدد من نجوم السينما العربية المصرية في ذاك الوقت. ومن جهة أخرى شاهدنا أعمالاً رائعة في الدراما الكويتية، عكست ظواهر التغير الاجتماعي والاقتصادي الذي اعترى المجتمع الخليجي في تلك الفترة.
وفي مراحل لاحقة أخذت المسلسلات تحل محل الأفلام السينمائية، فانفتح الباب على مصراعيه لكتاب الصف الثاني ومن في حكمهم للعبث بالدراما، مستفيدين من خلو الساحة من الكتاب المبدعين،.
ولم تمض أعوام حتى تم إغراق السوق بكم هائل من المسلسلات الهابطة (الغربية والتركية)، التي حملت أسماء غريبة، وكان الهدف الأساسي من تقليد السينما الغربية، هو أن يحل مسلسل يستمر عرضه ستة أشهر بدلاً عن فيلم يعرض في ليلة، لضمان عائد مادي أكبر.. وأدى اللهاث وراء المال إلى فقدان المضمون، وأصبح المخرج مطالباً بحشو المسلسل بمشاهد عبثية لتستمر الحلقات لأطول فترة ممكنة، وهكذا تم اغتيال السينما العربية.
لقد استطاعت المسلسلات التركية أن تقتحم بيوت الناس في كل الدول العربية من المحيط إلى الخليج، ولقيت قبولاً واستحساناً بسبب روعة التصوير وجمال المناظر الطبيعية في المناطق الريفية التركية..
وأثق أن آلاف الناس سيشدون الرحال لقضاء عطلة الصيف في ربوع تركيا الخضراء، بسبب تأثير المسلسلات التي تم إنتاجها لتخدم مجموعة من الأهداف السياحية والاقتصادية والسياسية، فضلاً عن أهداف ثقافية تم التخطيط لها بعناية فائقة، للترويج لأدوار تسعى تركيا إلى أن تلعبها في المنطقة وهي لا تفوت على فطنة المشاهد الذكي.. والدليل تدخل تركيا أخيراً بشكل سافر في شؤون الدولة المصرية.
ما أود الإشارة إليه، هو أن عصر العولمة والفضاء المفتوح سهل لبعض الدول تمرير أجندات خفية، يجري التخطيط لها من قبل فرق متخصصة في عملية غسيل المخ (Brain Wash) وتزييف العقول العربية بعناية.. ولهذا على الجهات المسؤولة عن الثقافة والإعلام في كل الدول العربية أن تكون أكثر يقظة، لأن الأمن الثقافي يعتبر بجميع المقاييس خط الدفاع الأول ضد محاولات طمس "هوية الشعوب العربية"،.
وقد سبقتنا دول عديدة لا تسمح بعرض أي مسلسل أجنبي إلا بعد موافقة "لجان ذات رقابة صارمة متخصصة"، حتى "لا تسلل أي أفكار تروج لها الأفلام والمسلسلات الأجنبية في غياب الرقابة"... والسؤال: هل توجد رقابة فعلاً في الدول المستهدفة من هذا الغزو الدرامي التآمري؟!