بين الشرعية الثورية والدستورية

ت + ت - الحجم الطبيعي

هذا الموضوع الحساس والخطير، يكتسي طابعا جذريا في الظروف العربية الراهنة، ويقتضي قراءة مفاهيمية منهجية، تحدد أولاً معنى الشرعية، ثم تعرج إلى واقع الحال في بلدان الأمة التي خرجت من تصاريف الربيع العربي.

وفي البداية، من الضرورة بمكان الإقرار بأن الشرعية ليست واحدة ووحيدة، بل ترتبط أساسا بطبيعة العقد الاجتماعي التوافقي للأمة. وسنرى أن الشرعيات العربية المستمدة من الحاكميات التاريخية، بنماذجها الملكية والأميرية والسلطانية، تعتمد على ثقافة المبايعة الصادرة عن القبول العام للمرجعية القائمة في الحاكمية الموروثة، ولكن المتحولة بالضرورة، باعتبار أن الحاكميات التاريخية القائمة في العالم العربي ليست بمنأى عن التفاعل مع مقتضيات العصر وتحدياته.

ولهذا سنجد البرلمانات والمجالس الوطنية في كثير من بلدان العرب صادرة عن ثقافة البيعة والقبول بالمرجعية، بل إن بعضها يتجه نحو شكل من أشكال الحاكميات الدستورية المتأسية بالثقافة السياسية الأوروبية، ولعل الملكية المغربية أقرب مثال لذلك، غير أننا لا نستطيع احتساب الحاكمية المغربية في عداد الملكيات الدستورية الأوروبية، ومن أمثلتها الساطعة الحالتان الإسبانية والبريطانية.

في الملكيات والإمارات والسلطنات العربية، نقف على شرعية تستمد جذرها من الحاكمية المقرونة بالقبول الشعبي، الصادر عن فقه الولاء والبراء بالمعنى السياسي للكلمة. وهكذا نجد أن الشرعية الشعبية مأخوذة بعين الاعتبار بالمعنى الفولكلوري التاريخي للكلمة، ونجد أن التجارب الملكية السلطانية في العالم العربي، تماهت مع تقاليد التاريخ والثقافة العامة، ولم تتنكب مشقة الإبحار في الشرعيتين الدستورية والثورية اللتين وسمتها بلدان الجمهوريات العربية.

فالمعروف تاريخيا أن تلك الجمهوريات صدرت أولا عن شرعية ثورية انقلابية، تصدرتها القيادات العسكرية وكيفتها على مدى العقود الخمسة الماضية على مقاسات الحاكم العسكري، حتى وإن استبدل لباس الجنرال بلباس الرئيس، والبدلة العسكرية المدججة بالنياشين بالبدلة المدنية الأنيقة.

كما سنلاحظ أن تلك الشرعية الثورية الانقلابية، حاولت التمازج مع الشرعية الانتخابية الموهومة، دونما تقدم يذكر في هذا الباب، حتى أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في بلدان الجمهوريات الحزبية المتعددة، لم تترجم معنى الجمهورية، ومعنى التعددية، قياسا بالتخريجات والنظرات الخاصة بفقه الدولة الجمهورية، وبالتالي بدت الصورة ملهاوية حد الضحك، ومأساوية حد المفارقة لجوهر ما قالت به تلك الأنظمة.

وهكذا نشأت جمهوريات أوتوقراطية متجذرة في الاستبداد المقطر، بل انزاحت نحو التوريث المفارق تماماً لفقه الدولة الجمهورية. رأينا هذا الأمر في سوريا بعيد وفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد، وكنا موعودين بذات السيناريو في عراق صدام، ومصر حسني، ويمن صالح، وليبيا القذافي، غير أن التاريخ كانت له مقولته ومكره الصاعق.

تاليا وبعيد الصدفة البوعزيزية التونسية، تموضع الزمن السياسي العربي في مربع دفع الاستحقاق الثقيل، وسقطت سلسلة من الأنظمة بفعل انتفاضات شعبية تمازجت فيها العفوية بالإدارة السياسة لفرقاء المعارضة، ورجع العرب مرة أخرى إلى مربع السؤال القديم الجديد، فانبرت شرعية جديدة اتسمت حينا بالشرعية الثورية، ثم انزاحت أحايين أخرى نحو شرعية توافقية كالتي حدثت في اليمن، وثورية متجددة بحسب الوصف الرسمي المصري الجديد، وتارة بالانقلاب على الشرعية كما يقول أنصار الإخوان في مصر.

لكن صفة الشرعية الانقلابية المجازة جماهيريا ليست مطروحة البتة، رغم كونها أميز ما ميز نظام عبد الناصر بعيد يوليو عام 1952، وسارت على دربها متغيرات العراق واليمن وسوريا وليبيا في ذلك الحين، مما هو معروف في تواريخ الشرعيات الانقلابية التي سميت أيضاً ثورية، حتى كدنا نفقد المعيار الحقيقي لمعنى الثورة.

الآن نحن إزاء مفارقة عجيبة، فالصدور عن الشرعية الجماهيرية قد يؤدي إلى متوالية لتجدد هذه الشرعية كما حدث في مصر، وقد يحدث ذات الأمر في تونس واليمن وليبيا، كما أن التمسك بالشرعية الدستورية يقتضي القبول بهذه اللعبة إلى نهاياتها المنطقية.

وفكرة القبول باللعبة الديمقراطية المترجرجة، تقتضي مقدمات وجودية وثقافية مغايرة جذريا لواقع الحال في بلدان العرب، التي لم تحقق بعد معنى الهوية في أساس المواطنة القانونية، ولم تتمثل ضمنا وأساسا فقه الجمهوريات المعلنة منذ عقود، فيما ظلت نواميس التاريخ وأعراف حاكميته الموروثة قابعة في جوهر المشهد، ولكن بصورة مشوهة، حيث أوراق السلوفان الجمهورية اللماعة تغطي الحقيقة المجردة لحاكميات أوليغارشية عسكرية استبدادية، أبعد ما تكون عن الجمهوريات المعلنة، ولو كانت بقياسات جمهورية أفلاطون الطبقية البدائية.

الجدل البيزنطي القائم اليوم حول الشرعية ومعناها، يدل دلالة قاطعة على أننا بحاجة أولا إلى "جمهرة الجمهوريات" لنتمثل لعبة التعدد والصندوق، كما أننا وبنفس القدر، بحاجة إلى مغادرة الدولة التاريخية المركزية البسيطة، لنتمثل معنى الدولة العصرية اللامركزية المركبة، التي تسمح بتناغم المصالح، وتوفير البيئة المناسبة للتنمية الأفقية، وإلغاء الاحتكار والاستحواذ والفساد. عندها يمكننا الحديث عن الشرعية النابعة من العقد الاجتماعي المسطور قانونا، والمجير على الدستور الوضعي الذي نرتضيه جميعا.

لعبة الشرعية تتحول في الزمن العربي إلى لعبة خطيرة، أشبه ما تكون بأرضية تتجمع فيها المياه الآسنة، وتصبح زلقة لا يقوى أحد على السير فيها. في مشهد الفوضى الموروث من سياق تاريخي مجاف للتوازن، لا معنى للشرعية، ولا قيمة للأسماء والمسميات، ولا مكان للتمييز بين الشرعيات الثورية والجماهيرية والانقلابية والدستورية!

Email