الكلمة المخاتلة رصاصة قاتلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهد العالم العربي حدثا زلزاليا تمثل في الربيع العربي، ومحتواه أن الجماهير العربية باشرت احتجاجاتها طلبا في تغيير الأنظمة ورغبة في الحرية والنمو، لكننا اليوم إزاء متوالية تراجيدية أفقدت هذه المطالب والمقاولات جوهرها، وأصبحت تعيد إنتاج خرائبها في ظل غياب في الرؤية، وجدل بيزنطي ينتظم فيه فرقاء السياسات القاصرة، وردود أفعال لا تميز بين الاحتجاج السلمي المشروع، والاعتداءات السافرة وغير المبررة على البشر.

معلوم أن السلطات القائمة في بلدان الربيع العربي، لم تتمكن من محاصرة الجماهير نفسيا وإعلاميا، بالنظر لتوفر وسائل اتصال ونشر للأخبار والصور تتجاوز المؤسسات الإعلامية الرسمية، وبدا الجيل الجديد من الشباب أكثر فاعلية وقدرة على تنظيم المسيرات والاعتصامات والاحتجاجات، وكان التنسيق بين الملايين منهم يتم عبر شبكات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وتويتر وسكايب وتانغو وفايبر، بالإضافة إلى المراسلات الشخصية عبر البريد الالكتروني.

لم تقف المسألة عند هذا الحد، بل باشر المعتصمون في ساحات المدن العربية الرئيسية إنتاجا فنيا ميدانيا، ونقلوه إلى شبكات التواصل الاجتماعي، كما لوحظ تفاعل الفضائيات العربية مع تلك النشاطات، حتى أن نشرات الأخبار الرئيسية في القنوات الإخبارية تعاملت مع تلك المواد المصورة المرسلة من شباب الساحات ونشرتها على نطاق واسع.

وخلال تلك الفترة نشأت حساسية جديدة في التلقي عند المشاهدين والمستمعين، فقد زادت مصداقية المواد المرسلة مباشرة من ساحات الاعتصام، وبرزت مواهب فنية في الغناء والرسم والمسرح الشعبي، وكانت تقنيات الانترنت كبيرة الأهمية في نقل رسائل المحتجين وهواجسهم وهمومهم.

لقد لعبت الميديا العصرية دورا كبيرا في نقل رسائل المحتجين العرب لكل أرجاء العالم، كما ثبت عجز القنوات الإعلامية الرسمية أمام سطوة إعلام الوسائط المتعددة. لكن رغم هذه الإيجابيات الظاهرة، ما زلنا نعيش سلبيات الأداء الإعلامي المترافق مع الظاهرة...

فالاستقطاب السياسي الأيديولوجي على أشده، والمراهنة على مزاج الشارع البسيط يؤدي إلى شكل من أشكال السيكوباتزم الجماعي، الذي يذكرنا بما كان عليه الحال أثناء ثورات فرنسا وروسيا والصين، وفي مثل هذه الأحوال ينتشر الصعاليك والبلاطجة، ليتحولوا تباعا لأمراء حرب اعتياديين، وحينها سينقلب سحر عرّابي التصعيد عليهم.

وقد لوحظت هذه الظاهرة على وجه أخص في لبنان الحرب الأهلية، والصومال أيضا بعد انهيار نظام الرئيس الراحل سياد بري. وفي المقابل تنعش هذه الحالة الأكروباتية الأماني الوهمية لمن تركوا السلطة طوعا أو كرها، فيتمترسون ويستعدون لما هو أفدح من البدايات، وفي هذا الباب تظهر الحالة التراجيدية السورية كتعبير مفجع عن محنة العقل السياسي المحلي والدولي، وكأنها بهذه الدماء والدموع كشفت عورة النظام الدولي العائم في غياهب الخلافات اللزجة، والإقامة المديدة في استدعاء تقاليد الحرب الباردة، ولكن في أفق لم يعد يتسع البتة لتوازنات الماضي القريب.

وعلى مستوى الإعلام الفضائي والالكتروني العربي الملتبس حتى مخ العظم بالمتغير الزلزالي، نشاهد قدرا واضحا من افتقاد المهنية والمصداقية. هذا المشهد يتناقض تماماً مع ما كان عليه الحال قبل أربعة عقود من الزمن، عندما كان الإعلام الرسمي سيد الموقف، وكان في وسع الأنظمة بث وتعميم ما يرضيها، وإخفاء ما لا يرضيها، وقد كان ذلك الاجتهاد حمال أوجه، وكان يجمع بين الحكمة القائلة بأن ما كل ما يُعرف يقال (بضم الياء الأولى والثانية أيضا) من جهة، وتعطيل بعض الحقائق الهامة من جهة أخرى.

لقد فتح الربيع العربي سؤالا كبيرا أمام إعلام العصر، وأثبت أن عالم اليوم يختلف تماماً عن عالم الأمس، وأن الدول العربية لا تستطيع مواصلة السير على درب التعتيم المجاني، وقد ذهب أغلب المراقبين إلى القول بأن تكنولوجيا الوسائط الرقمية المتعددة كان لها دور حاسم في تحقيق ذلك الانقلاب الكبير في المنطقة العربية.

تلك المحطات التي أسلفنا الحديث عنها ليست نهاية المطاف، فالتكنولوجيا الرقمية تتطور بوتيرة صاعدة، ووسائل الاتصال والإعلام الفردي تتزايد يوما بعد يوم، ولهذا ليس أمام النظام السياسي العصري من خيار سوى الحرية الشخصية المقرونة بالمسؤولية، والنظام العربي تحديدا مطالب باستيعاب هذه الرسالة.

لم يعد في الوقت متسع لممارسة ترف التجريب، فالكلمة المخاتلة تحولت إلى رصاصة قاتلة، وما يجري في بلدان العرب "الربيعية" ينذر بأوخم العواقب، خاصة في ظل تسارع بورصة الإعلام اللاهث وراء المشاهدين، وبأي ثمن.

 

Email