هل العالم بصدد تسوية كُبرى؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

هذا سؤال لم يعد افتراضياً ومشفوعا بالآمال والآمال الكبيرة، بخروج العالم من شرنقة الحالة القائمة, ذات الآثار الوخيمة على السياسة الدولية، بل إن هذا الأمر أصبح مُلحاً جداً، حيث بدأت دوائر صنع القرار في أكثر البلدان قوة وأثراً، تعيد النظر في ثوابت السياسات الخارجية التي نجمت عن فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وانفساح الطريق لمشروع عالم جديد، ينتظم جبراً أو خياراً ضمن سياق المركز الكوني الواحد الذي تشرف عليه الولايات المتحدة.

كانت حسابات الاستراتيجيين الأمريكان قائمة على فرضية جوهرية، تتعلق بمعادلة الحرب الباردة والثنائية القطبية التي انتفت بانتفاء الاتحاد السوفيتي، غير أن هذه الحسبة التي تبدو مبررة في ظاهرها، تقاطعت مع تلك الاندفاعة المُتسرِّعة لليمين الجمهوري، الذي كاد أن يُصدِّق أن ذلك الانهيار الحر للتحدي الكبير، يعني تماماً انتصار النموذج الأمريكي.

وقد لاحظ الجميع أن هذه التداعيات السياسية الفكرية تقاطعت ضمناً مع شكل من أشكال النزعة الدينية الإيديولوجية، التواقة إلى "هرمجدون" الأسطورية النابعة من التوقعات الدينية المرصودة في أساس "البروتستانتية الأنغليكانية"، كما تقاطعت أيضاً مع النزعة "النيتشوية" المُعتدَّة كثيراً بثقافة القوة، وحرق المراحل، والاعتقاد الجازم بأن "الفوضى البناءة" تعني تخطِّي العتبات، وإلغاء المنطق التسلسلي في صُنع المبادرات الاقتحامية الكبرى، التي على وزن الحرب العالمية ضد الارهاب.

باشرت إدارتا بوش الأب وبوش الابن تلك الحرب، التي بدا المبرر لها واضحاً بعد غزو نظام صدام حسين للكويت، على عهد بوش الأب.. غير أن ذات المبادرة الاقتحامية العسيرة بدت متهافتة على عهد بوش الابن، وأحداث سبتمبر.

فقد حرص مفتشو أسلحة الدمار الشامل الأكثر مهنية ومنهجية، على رفض التبرير لشن تلك الحرب الجهنمية، ولعل البروفيسور البريطاني المنتحر، والذي كان مُعتمَداً على عهد "توني بلير" بوصفه كبير مفتشي أسلحة الدمار الشامل في بريطانيا.. ذلك الرجل المهني في قضايا أسلحة الدمار الشامل "ديفيد كيلي"، رفض تماماً الإفادة بأن نظام صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل. وبعد أيام من رفضه التام لتلك الإفادة، وجد مقتولاً في بيته بحسب إفادات الصحافة البريطاينة، وكان الاستنتاج المباشر أنه انتحر!

إدارة بوش الابن واصلت مسيرة الظفر العسكري المباشر، لتورث خلفها الديمقراطي (أوباما) ملفاً ثقيلاً تصعب زحزحته، فالحالتان الأفغانية والعراقية اللتان اتُّخذتا كبروفة لتسوية سياسية محكومة بالإرادة الأمريكية، لم تحققا ما تاق إليه مخططو الفوضى الخلاقة.

لقد بدت واضحة استحالة مواصلة تلك السياسة، وتخلَّى بوش الابن عن عرش أوهامه الهرمجدونية المقرون باستشارة "الرب"، وكانت مؤسسة الديمقراطية الأمريكية حاسمة في تكريس أوباما لولايتين متتاليتين، على أمل ردم الهوة السحيقة التي تفصل بين الحلم الأمريكي والمنامات المرعبة، وواصل أوباما سياسة سلفه الديمقراطي بيل كلنتون في التركيز على الداخل الأمريكي، وتحقيق بعض النجاحات على خط الخدمات الاجتماعية، ومقارعة اليمين المتوحش، وتبريد الرؤوس الساخنة في البنتاغون والخارجية وبورصة "وول استريت" المُتفلِّتة.

وواصلت إدارة أوباما مرحلة بيل كلنتون بقدر كبير من الانفراجة السياسية على خط أوروبا "العجوز"، التي طالما نبَّهت لخطورة الأُحادية القطبية، وحاولت قدر الجهد إقناع الجمهوريين في الولايات المتحدة بجدوى الذهاب إلى عالم متعدد الأقطاب.

تلك الفكرة التي تبنَّتها فرنسا والصين بصورة متزامنة، لكنها لم تنل عناية من قبل الجمهوريين الأمريكان، الذين اعتبروا دُعاة التعددية القطبية بمثابة ديناصورات مُنقرضة، لا تنتمي إلى المستقبل.. لكن الأيام أثبتت صحة ما ذهب إليه هؤلاء المنقرضون من "مستحاثات التاريخ"، بحسب أوصاف الإعلام الجمهوري الأكثر تطرفاً.

وعطفاً على تباشير السويَّة الافتراضية العالمية التي يتوق إليها كل من انخرط في متاهات ما بعد الحرب الباردة، واستناداً إلى المجابهة المحمومة بين الولايات المتحدة وروسيا.. تلك التي اتَّخذت سلسلة من العناوين والوقائع المعروفة، كان من أبرزها: تفخيخ العمق الإقليمي الروسي، ممثلاً في دول الاتحاد السوفيتي السابق وحلفائه في شرق اوروبا، ثم المعاداة السافرة لمنظومة "بوتين" القومية اليسارية، النابعة من ثقافة الاتحاد السوفيتي السابق، والنزعة القومية الروسية.

هذه المحطات بجملتها كانت سبباً مباشراً في استفزاز الدُّب الروسي، الذي صحا بعد بيات شتوي طويل، وساح تالياً في براري الانتعاش العسكري والاقتصادي المتواتر.. وصولاً إلى استعادة مجد العسكرية الروسية من جهة، ومخاطبة الجوار المتمرد بلغتي الترغيب والترهيب من جهة أخرى.

وعندما جاء الربيع العربي على حين غفلة من سدنة التوقعات السياسية، وجدت روسيا نفسها أمام طارئ مقلق، وتداركت أمرها بعد حين، لتُشكِّل عقبة كأداء أمام رغبة الولايات المتحدة في إتمام ملف الربيع العربي بالكيفية التي تراها مناسبة، وبالتوازي مع سياسة النأي بالنفس، الموازية لتدخل الغير بالنيابة، التي اعتمدها الديمقراطيون بزعامة أوباما.. لكن تلك السياسة الأمريكية بالذات، كانت تتوق إلى تحقيق مرئيات الديمقراطيين بأدوات أوروبية ودولية، كما حدث في ليبيا واليمن على سبيل المثال.

على خط متصل؛ تحقق التحالف الروسي الصيني الناجز في مجلس الأمن الدولي، وأصبحت المشكلة السورية في انتظار توافق الكبار، وتليين العلاقات في اتجاه استيعاب روسيا البوتينية الجديدة، التي لم تعد خائرة القوى، ولم تعد تجر معها خيبات البريسترويكا وما تلاها من ضعف في عهد يلتسن.

حالة الانحباس السياسي الدولي تلك اقتضت نظرة جديدة، ورؤية متجددة، وتنازلات شجاعة من الطرفين الأسايين في معادلة القوة المجردة (أمريكا وروسيا)، وحينما نتحدث عنهما فإنما نتحدث ضمناً عن حلفائهما التقليديين في أوروبا وآسيا، وتحديداً دول الاتحاد الأوروبي على الخط الأمريكي، والصين على الخط الروسي.

هنا نكتشف كيفية تحقق التعددية القطبية ضمن صيغة يتزعمها ذات الثنائي التاريخي القادم من رحى الحرب الباردة (أمريكا وروسيا)، وكيف يكون القبول الناجز لأوروبا وآسيا، مقرونا بالتشاور والمصالح الأفقية لكل الأطراف.

لعل وصول الأوضاع إلى حالتها الاستحالية الراهنة يكون نذير بشارة لتفاهم دولي جديد، يضع في الاعتبار كامل المرحلة السابقة وإخفاقاتها المؤلمة، وآثارها المدمرة على كامل الصعد. ومن هنا نستطيع القول إن العقل العالمي الرشيد، يباشر الآن تحبيك سيناريو للتفاهمات الكفيلة بإخراج البشرية من محنة ما بعد الحرب الباردة، ما يعطي الشعوب أملاً في عالم خال من العنف المتطرف، والعصبية، والاستيهامات.

Email