البعد التاريخي والثقافي في خطاب أردوغان

ت + ت - الحجم الطبيعي

لأكثر من أسبوعين في يونيو 2013، شكلت ساحة "تقسيم" في إسطنبول، فضاء الحرية التي اتسعت دائرتها بصورة مذهلة، حتى وصلت إلى جميع أرجاء تركيا.

لكن رئيس الوزراء رجب أردوغان وأركان حزبه، لم يحتملوا أن تكون للأتراك ساحة للحرية يتوافدون إليها في إسطنبول وأنقرة وإزمير وغيرها من المدن التركية، فواجهوها بالقمع والعنف. وحين سمع أردوغان بأن حركة الاحتجاج أشبه ما تكون بالربيع التركي، انتفض بشدة، لأن تركيا ليست كالدول العربية.

فتركيا وريثة سلطنة عثمانية، كان فيها العرب بمثابة رعايا لدى الأتراك. نجح أردوغان خلال السنوات العشر الماضية في إبعاد العسكرتاريا عن السلطة، ليتحالف مع رجال المال والأعمال.

فحد من دور العسكر وتدخل قادته في السياسة، ورفع من منسوب حرية التعبير، إلى أن تم توجيه الانتقاد إلى "السلطان الجديد" فأمر بقمعه فوراً. هزت "انتفاضة تقسيم" والاحتجاجات غير المسبوقة جميع مناطق تركيا، وتحدت سلطة أردوغان طوال أسبوعين.

وشهدت المدن التركية اختبار قوة بين رئيس الوزراء ومعارضيه الذين طالبوا باستقالته، فحشد حزب "العدالة والتنمية" الحاكم مئات الآلاف من مؤيديه في إسطنبول دعماً لأردوغان.

 وبعد مواجهات عنيفة، تم إخراج المتظاهرين بالقوة من ساحة الحرية، ودخلت الانتفاضة في مخاض جديد، وتحولت إلى حركة احتجاج سياسية وشعبية وعمالية وثقافية.

فقد أعلن الاتحاد النقابي للعمال الثوريين، الذي يضم 420 ألف عضو، والاتحاد النقابي لموظفي القطاع العام، ويضم 250 ألف عضو، إضراباً عاماً، شاركت فيه نقابات الأطباء والمهندسين وأطباء الأسنان. وامتدت حركة الاحتجاج إلى جميع أنحاء تركيا، لمواجهة أعمال العنف التي ارتكبتها رجال الشرطة ضد المتظاهرين.

فقد أفرط هؤلاء في استخدام قنابل الغاز المسيل للدموع، وخراطيم المياه، والرصاص المطاط، لطرد المحتجين بالقوة من مراكز الاعتصام، وداهمت بعض المنازل على امتداد الأراضي التركية، واعتقلت مئات المناضلين.

نددت وسائل الإعلام العالمية بتلك السياسة القمعية، وألغى بعض النواب الأوروبيين زيارات كانت مقررة لتركيا، على خلفية الانتقادات القاسية التي وجهتها حكومة أردوغان لموقف وسائل الإعلام الغربية من تعامل الشرطة مع حركات الاحتجاج.

ودعت ألمانيا الحكومة التركية إلى احترام حرية التظاهر والتعبير عن الرأي، واحترام حقوق المواطنين المسالمين، ما أثار رد فعل أردوغان، فتحول بين ليلة وضحاها من زعيم إصلاحي حظي باهتمام دول الغرب والعالم بكثير من الإطراء والمديح خلال السنوات العشر الماضية، إلى زعيم تسلطي يفتقر إلى الشرعية الشعبية، بعد أن نزل الأتراك بأعداد كبيرة إلى الشارع مطالبين برحيله.

لقد طرح مصير أردوغان على بساط البحث، بعد أن تحول إلى مجرد زعيم تسلطي من زعماء العالم الثالث، يصف شعبه باللصوص، والرعاع، والمتآمرين. فكيف تبدى خطابه السياسي من منظور تاريخي وثقافي؟

على المستوى التاريخي، استعاد أردوغان مراراً أمجاد التاريخ التركي ضمن محورين أساسيين: أ- أشاد في إحدى خطبه بدور السلاجقة الأتراك والعثمانيين، في محاولة لكسب حماسة أنصاره ضد المتظاهرين، "نحن أحفاد السلاجقة الذين جمعوا الشرق الأوسط تحت علم واحد، ونحن أحفاد العثمانيين الذين جمعوا ثلاث قارات تحت علم واحد".

ب- التمسك بأوهام النزعة العثمانية الجديدة، فعمل على إحيائها بتأييد حماسي من وزير خارجيته داوود أوغلو، في مرحلة تاريخية لم يعد فيها مكان لتجديد الإمبراطوريات القديمة. ا

نطلق أوغلو في دعوته إلى العثمانية الجديدة من مقولة "تصفير" المشكلات مع الدول العربية والإسلامية، تمهيداً لإحياء مجد السلطنة العثمانية التليد بقيادة تركية.

وبدل أن يسعى إلى إقامة علاقات ودية مع تلك الدول على قاعدة المساواة، والإخاء، وتعزيز المصالح المشتركة بين شعوب عرفت تاريخاً مشتركاً، أدخل تركيا في صراع مكشوف مع مكونات السلطة العثمانية من أتراك، وعرب، وأكراد، وأرمن، وطوائف مسيحية، وتجمعات قبلية.

ولم ينطلق من إيجابيات التاريخ المشترك، بعد نقده وتملكه معرفياً للاستفادة من دروس الماضي، حتى لا تنهار تلك العلاقات على غرار انهيار السلطنة العثمانية وإلغاء الخلافة الإسلامية.

لقد مارس السياسة بأسلوب فوقي، فصور نفسه خليفة للمسلمين العرب والأتراك والأكراد، وروج لمشروع إسلامي يعيد أمجاد السلطنة العثمانية، ويحيي الخلافة الإسلامية التي ألغاها الأتراك أنفسهم.

وعلى مستوى الممارسة الديمقراطية، وصف أردوغان احتجاجات المعارضة وقوى التغيير الديمقراطي في تركيا، والتي ضمت قرابة نصف سكانها، بأقذع الصفات، لمجرد أن اعترضوا على تفرده بالسلطة.

ولوح باستخدام الجيش لمنع أي احتجاج، وقال في إحدى خطبه: سأقوم بإخلاء "تقسيم" رغماً عن الجماعات الإرهابية"، ورد على اتهامه بالقمع: "ديمقراطيتنا تعرضت مجدداً لاختبار، وخرجت منه منتصرة". وأضاف: "نحن نقدم نموذجاً في ممارسة الديمقراطية، ونقول كلمتنا بالوسائل القانونية".

لقد برز تناقض صارخ بين كلام أردوغان عن الديمقراطية بمفهومها العلمي، وممارسة حكومة حزب العدالة والتنمية لها.

وأمام حشود جمعها لدعم سلطته، رد على انتقاد وسائل الإعلام الغربية لممارساته غير الديمقراطية، بالقول: هناك إعلام غربي يخفي هذه الحشود وينشر الأكاذيب ويشوه الحقائق.

ورأى أن وسائل الإعلام الدولية والبرلمان الأوروبي لا يريان ما يحدث في سوريا وفلسطين، وأن هناك من لم ترق له نجاحات تركيا الاقتصادية، واتهم وسائل الإعلام الأجنبية بالتحريض على الفتنة.

وضاق ذرعاً بحركة المحتجين، فدعا إلى إخلاء الساحات فوراً، وإلا سيقوم بنفسه بطرد المعارضة والجماعات الإرهابية منها. ورسم حدود الديمقراطية حين خاطب المتظاهرين بقوله: "لا يمكنكم تنظيم تجمع في أي مكان تختارونه، بل عليكم التظاهر فقط في المكان المسموح به".

ختاماً، هتف أنصار أردوغان عند دخولهم إلى حديقة "تقسيم" قائلين: "أيها اللصوص، سنكسر الأيدي التي امتدت إلى الشرطة"، فرد المحتجون: لسنا خائفين، بل نريد إسقاط الديكتاتور. هكذا تحول أردوغان إلى زعيم شعبوي تسلطي، رغم قيامه بإصلاحات اقتصادية هامة.

وبعد أن أسس تحالفاً انتخابياً عريضاً للتخلص من هيمنة العسكرتاريا، نزل نصف الشعب التركي إلى الشارع رافضاً خياراته السياسية والاقتصادية، ومطالباً برحيله وإخراج حزبه من السلطة بأسلوب ديمقراطي متحضر.

وسرعان ما استعاد موقعه إلى جانب زعماء العالم الثالث، بعد أن استنجد بالعسكرتاريا لضرب الديمقراطية الفتية في تركيا.

Email