مكمن الداء والدواء في المشكلة التركية

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنا قد توقفنا في مقال سابق عند بعض المقدمات الأساسية التي حددت مكانة تركيا الجيوسياسية في العالم المعاصر، وتحديداً ما يتعلق بالديالوغ العسير بين الإسلام التاريخي والغرب السياسي الديني، كما توقفنا أمام متوالية التحولات في الإسلام السياسي التركي بمحطاتها الثلاث التي بدأت مع حزب الرفاه الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان، ثم حزب الفضيلة الذي تخلى طواعية عن اسمه ليكون حزب العدالة والتنمية الحاكم حالياً.

تلك المحطات كانت وما زالت لها أهمية بالغة في تشخيص الحالة التركية، وخاصة ما يتعلق منها بثنائية الإسلام السياسي الرشيد والديمقراطية، المحسوبة حصراً على النموذج الأوروبي. وقد لاحظ المراقبون المتابعون للحالة التركية تفرد تركيا بنمط مغاير للإسلام السياسي المألوف في دوائر الحكم والمعارضة في البلدان العربية، كما لاحظوا تفرد تركيا في النموذج الليبرالي الأوروبي من حيث تخليها المنهجي عن اللهاث وراء الاتحاد الأوروبي.

ولكن دون أن تغلق الملف بجفاء قصير النظر. كما تتبع المراقبون الرهان الاستراتيجي لحكومة أردوغان على التنمية الداخلية في تركيا، والتي أنجزت ملحمة نمائية مشهودة خلال عقد من الزمان، وما زالت تعد بالكثير على الدرب ذاته الذي ثبت أنه درب الحكمة والروية والنظر العميق للخيارات الاقتصادية المتاحة.

تركيا الحالية لا تعاني الأزمة الاقتصادية العاصفة التي يتموضع في محارق متاهاتها عديد البلدان الأوروبية، ومنها على سبيل المثال الواضح؛ اليونان وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا.

كما أظهرت السياسة المالية والاستثمارية التركية خلال السنوات العشر الماضية، رهانها الكبير على الاقتصاد الكلي النابع من مقدمات الأرض ووعودها السخية، بدلاً من اقتصادات الوهم والبؤس النابعين من مرئيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتنمية وتابعهما الأكبر البنك المركزي الأوروبي، الذي لا يختلف جوهرياً عن مؤسستي النقد والبنك الدوليين.

وآخر شاهد على ذلك المقترح الجديد الذي قدمه مدير البنك المركزي الأوروبي، حيث اختصر حل مشكلات اليونان وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا في شراء سندات بنوك تلك البلدان الوطنية، عبر أموال تسلم لهم كقروض مستحقة السداد، بالترافق مع روشتات قاسية لحِمية مالية وإدارية واستثمارية، تحيل تلك البلدان إلى مجرد تابع لهيمنة الكبار على الاقتصاد المالي الأوروبي المبثوث في تضاعيف عملة اليورو، بوصفها مستودع القيم والتبادل والائتمان.

أدرك حزب العدالة والتنمية التركي منذ وقت مبكر مصيدة اليورو، تماماً كما فعلت بريطانيا في أفق ما، وخلال عقد الإصلاح السياسي والمالي والإداري، أنجزت الحكومة التركية سلسلة من النجاحات لصالح الجماهير الغفيرة، فيما حاصرت مافيا المال البنكي، والسيطرة الناعمة على مقدرات الاقتصاد التركي، وهو الأمر الذي يفسر لنا طبيعة الصراع المرير بين المافيا اليمينية السياسية المالية من جهة، وحزب العدالة والتنمية من جهة أخرى.

ومن السذاجة بمكان افتراض أن صراع الأمس القريب قد خبا وتلاشى، وأن المتضررين من سياسات العدالة والتنمية قد استسلموا، خاصة إذا عرفنا أن سدنة الرأسمالية المتوحشة ليسوا كياناً محلياً، بل طواغيت دوليين يستمدون قوتهم من بورصة "وول استريت" العتيدة في نيويورك.

ويعتقدون أن النظام النقدي الدولي ليس بحاجة إلى أي تعديل. إنهم الحراس العتاة للنظام النقدي الدولي المهيمن على مقدرات البشرية، والذي استمد عنفوانه المتوحش من اتفاقية الظفر العسكري الرأسمالي بعد الحرب الكونية الثانية، وتحديداً في قرية "بريتن وودز" الأميركية.

ومن الجدير بالإشارة هنا أن معركة أردوغان مع هذا النمط من المافيا المالية المخملية، لا تختلف عن المعركة ذاتها التي يخوضها الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي صرح أكثر من مرة، وبنبرة صادرة عن حقيقة، بأن محنة الاقتصاد الأميركي نابعة من البنوك، وفيها مكن الداء والدواء.

اليوم تواجه تركيا حالة مشابهة، في تعبير آخر عن مشكلة تتجاوز ظاهرها المرئي، لتكشف عن خفاياها القادمة من حراك محموم للأوليغارشية المالية، التي تتحسر على أمجاد ماضيها القريب، يوم أن كانت الطبقة الوسطى تنحدر، ويزداد الفقراء فقراً، فيما يتعملق المال الفاجر دونما نظر لمعنى التنمية الحقيقية، وجوهر الاستحقاقات الوطنية النبيلة أمام تركيا الكبيرة.

المظاهرات والاحتجاجات الماثلة تنطوي على هذه الحقائق، حتى وإن باشرتها مجاميع من "المؤلفة قلوبهم" على نغمة الحرية المبتذلة، والديمقراطية الزائفة.

مصائر الحالة التركية ستكتشف حتماً خارطة جيوسياسية أوروبية وعربية وآسيوية وإفريقية أيضاً، والأيام سجال..

 

Email