حروب بالوكالة من نمط جديد

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحروب بالوكالة سياقات تاريخية سياسية يعرفها الجميع، وقد اتخذت هذه الحروب طابع التحالفات الإقليمية والدولية واضحة المعالم أثناء الحرب الباردة، غير أنها انحرفت عن ذلك المسار بطريقة حادة، منذ أن سقطت الأيديولوجيات كرافعة كبرى للخلافات والاختلافات، وحلت محلها سلسلة من الاستيهامات المُغلّفة بالأديان والمذاهب والعقائد.

ولقد ظهر جلياً كيف أن الأديان استخدمت على مدى التاريخ المعروف من طرف المتدثرين بها كذباً وزوراً، ولأغراض دنيوية أقل ما يمكن أن توصف به أنها تتّسم بالمفارقة الجوهرية لأديان النبع الصافي.. وفي المقابل، الغلو المتعصب في ما أسميه "أديان الشريعة" بالمعنى المغاير جوهرياً لمقاصد الشريعة.. تلك التي لا علاقة لها بالدين الحق.

كان اليميني الانجليكاني الداهية هانتنغتون أول المنظرين لصراع الأديان، بعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها عبر السقوط الناعم الحر للإمبراطورية السوفيتية، وعلى دربه واصل فوكوياما الهيغلي تقديم وعود المستقبل، عبر النموذج الأميركي الذي يراه بمثابة الخاتمة الطبيعية للنماذج السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبشرية، وكأنه بذلك يعتبر نهاية النموذج الأميركي بمثابة النهاية للحضارة البشرية الماثلة أمامنا بكل سيئاتها وحسناتها.

لم يكن فوكوياما وحيد ذاته في التنظير للمجتمع الألفي الفاضل، بل كان آخر الدعاة لذلك المجتمع بعيد المنال. المقدمات التنظيرية للثنائي فوكوياما وهانتنغتون، كانت بمثابة نقطة انطلاق لمشروع "الفرصة السانحة" الأميركي الذي مهّد له الرئيس الأميركي الأسبق نيكسون.

وتابع خطاه الجمهوري الانجليكاني الأكثر راديكالية ريغان، الذي فتح الباب واسعاً لخرائب الثنائي البروتستانتي الهرمجدوني (بوش الأب وبوش الابن)، وصولاً إلى تداعيات سبتمبر، وما بعد سبتمبر، حتى الحروب الماثلة في العالم العربي، والتي تستعيد تجارة الحرب بالوكالة.

ولكن بكيفيات مغايرة تماماً لذات الحروب التي سرت أثناء الحرب الباردة، ذلك أن مفهوم الحرب بالوكالة خضع يومها لميزان مغاير لواقع الحال اليوم. فالقاعدة الأساسية أثناء الحرب الباردة على عهد القطبين الأميركي والسوفيتي، تلخّصت في احترام توازن الرعب بين المعسكرين، بحيث ينعم العالم بحماية مؤكدة من قبل هذا المعسكر أو ذاك، وكان الصراع العالمي يخضع لمعادلة الثنائية القطبية، لكنه تغير بانهيار الاتحاد السوفيتي.

وانفتحت شهية الولايات المتحدة لقيادة العالم المعاصر، اعتقاداً من بعض سياسييها القابعين في قلب التجربة الأميركية، بأن انهيار المعسكر المقابل يعني انتصار النموذج الأميركي. وهكذا بدأت متوالية فعل عسير انتظمت في سياق سلسلة من المبادآت الاستراتيجية الشاملة، التي لم تبدأ بالإملاءات والنصائح فقط، ولم تنته بشر الحروب السافرة، ولم ينجُ أحد من الأذرع الأخطبوطية العالمية للإدارات الأميركية التي تعاقبت بعد عام 1990.

وكان العالم العربي ومازال في قلب المعادلة التراجيدية، سواء من خلال روشتات المؤسسات المالية الدولية التي تمكّنت من الإخلال بالتوازنات الاقتصادية الداخلية لتلك البلدان، أو من خلال الحروب المباشرة، ونموذجها الأقصى الحالة العراقية التي تحولت في نهاية المطاف إلى بيئة إدارة لحروب إقليمية ودولية بالوكالة

. وفي مرحلة الربيع العربي، بشكليه الناعم والعنفي، انبرت تلك الحروب بالوكالة لنشهد قمة محنتها في الحالة السورية، لكنها لم تكن وليست غائبة عن مصر واليمن وليبيا وتونس. الحالة اليمنية في هذا الباب تستحق منا وقفة خاصة، لكونها نموذجاً يتجدد بقلق مستديم، وتترنح عوامله بين قطبي النجاح الموعود.

والفشل المرصود، لكننا لا نستطيع اليوم الحديث عن حروب بينية يمنية بالمعنى الميداني العسكري للكلمة، وفي ذات الوقت لا نستطيع إنكار الحروب البينية الداخلية ذات الطابع الناعم حيناً، والمخاتل في نعومته الظاهرة أحايين كثيرة، فما يجري على خط تعطيل الخدمات الأساسية وتجفيف موارد العملة الصعبة.

ونشر التقطُّعات والجرائم المنظمة لا يمكن أن يصدر من مواطنين أسوياء، ولا يمكن قراءته خارج الحرب البينية الباردة بين أنصار التغيير بطيوف ألوانهم من جهة، وأنصار الإقامة في سيئات الماضي من جهة أخرى، وما يجعل هذه الحالة أكثر فداحة هو انخراط قوى إقليمية في معادلة التوازنات الداخلية، تماماً كما حدث ويحدث في لبنان والعراق وسوريا.. وعليه فإن رهان قوى التخلف والبؤس، هو ترسيخ هذه الحالة حتى يتحول اليمن إلى بيئة حرب بالوكالة، سواء كانت حربا باردة أو ساخنة.

لقد عقدت قوى التخلف والبؤس العزم على تحويل اليمن إلى مراكز قوى تتلاقح مع الدولة والمؤسسة، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى إفراغهما من مضمونهما الحقيقي. والحالة اليمنية لا تختلف جوهرياً عن الحالات المماثلة في العالم العربي، إلا من حيث الأمل الكبير الذي قدمته المبادرة الخليجية من جهة، ومن حيث الاستجابة العاقلة لفرقاء الداخل اليمني لمقتضيات تلك المبادرة..

غير أن حسابات الحقل سرعان ما تغيرت، وانكشفت حقائق جديدة مرعبة، فالجميع منخرط في تصفية الحسابات المؤجلة، ولو جاء ذلك ضد مصلحة الجماهير البريئة، وتسميم حياتها اليومية، من خلال الإفشال العملي للدولة.. فظواهر كالاعتداء على الكهرباء العامة، وتفجير أنابيب النفط، وتعطيل تصدير الغاز الطبيعي، وتخريب الطرقات البرية من خلال تقطيع أوصالها.

. مثل هذه الظواهر لا يمكن أن تكون ناجمة عن مواطنين لهم مطالب أو تظلُّمات، بل العكس. والدليل القاطع المانع على ذلك، نراه في بعض المطالب المضحكة التي يتقدم بها المعتدون على الخدمات العامة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: تأمين منحة دراسية لطالب.

. أو إطلاق سجين حكم عليه بالسجن 3 سنوات!! والعتب هنا ليس على المجرمين المنفذين لهذه الأفعال، بل على الدولة الصامتة والمكتفية بالتحذيرات، فيما يستمر المخربون في تنفيذ مخططاتهم الجهنمية، التي تدار من غرف سرية لموتورين غير قادرين على استيعاب منطق التاريخ والتطور.

حديثنا عن الحرب البينية بالوكالة يطال هذه المسألة أيضاً، إذا عرفنا أن اللاعبين الاقليميين في الشأن الداخلي اليمني، لا يدعمون الدولة الرامزة للشرعية كما تقتضي التقاليد الحميدة بين الدول، بل كل المنخرطين في مناجزة هذه الدولة بالذات، وفي المقدمة الحوثيون المُتشيعون لنظام الملالي في إيران، والقبائليون الرافضون للدولة الحديثة، وجماعات الإسلام السياسي الأكثر تطرفاً وهمجية.

 

Email