في ذكرى الوحدة اليمنية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أمس الأربعاء، توقفت الساعة عند يوم 22 من مايو 1990، عندما ارتفع علم الجمهورية اليمينة في مدينة عدن، ليحل محل علمي الجمهورية العربية اليمنية، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وبالترافق، ابتهجت الأمة كلها من المحيط إلى الخليج بهذا الاختراق اليمني للزمن السياسي العربي. وكعادتنا نحن العرب، لم نقرأ من الحدث الكبير سوى البُعد المهرجاني الاحتفالي المحفوف بالغنائية، ودونما تمعُّن في المقدمات الخائبة التي كان لا بد لها أن توصل إلى النتائج الماثلة، الأكثر خيبة.

فقد جاءت وحدة مايو اليمانية عطفاً على تفرد زعيمي البلدين باتخاذ قرار استراتيجي، كان يستحق تشاوراً واسعاً، واستنطاقاً لحكمة الحكماء في النظامين، لكن ذلك لم يحدث. فقد اندفع الطرفان نحو رومانسية عاطفية، تميز بها ممثل الجنوب أكثر من الشمال، مقابل براغماتية شعبوية، اقترنت بأجندة مريبة لدى ممثل الشمال.

وهكذا بدت سوءة الوحدويين شكلاً، الباحثين عن المُلك مضموناً. وقد تجلَّت الحقيقة المرة بمجرد شَرْعَنة النظام الجديد، عبر الاستفتاء على الدستور، والتناصف في الحكومة، وتشكيل البرلمان. فما إن اكتملت تلك الملامح، حتى شرع رأس النظام في صنعاء، بمباشرة دور الجلاد الذي لا يقبل بأقل من خضوع الجميع لنمط نظامه، المفصل على مقاساته الضيقة ومتاهاته الغامضة.

أمس، توقفنا معاً أمام الذكرى الثالثة والثلاثين للوحدة اليمنية التي أفقدناها معناها ومغزاها، جراء تغول الظلام والظلاميين.. وأتذكر بهذه المناسبة، تلك الاستشارة الواهية التي جاءتني وآخرين، من قبل المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني، قبيل وصول وفد الشطر الشمالي إلى عدن، برئاسة الرئيس السابق علي عبد الله صالح.

وأذكر جيداً ما سطرته والراحل الأستاذ عبد الواسع قاسم رئيس تحرير مجلة "قضايا العصر"، وكيف أننا افترضنا، بالمنطقين العقلي والتاريخي، أن صيغة الوحدة القادمة ستكون إما اتحادية فدرالية أو كونفدرالية.. لكنني شخصياً، اعتبرت أن الوحدة المحتملة ستكون حتماً بين عصبيتين قابضتين على مقدرات الشطرين، وهما من أذاقتا الشمال والجنوب الأمرّين، وليستا مؤهلتين للتصدي لهذا المشروع الوطني الكبير.

القول بوحدة العصبيتين اللتين لا تتحدان أصلاً، قائم على استقراء سياسي لمجريات الحال في شطري اليمن قبل الوحدة، فالقابضون على سدة الحكم والإرادة المالية والعسكرية في الشطرين، خرجوا من رحم القوات المسلحة المقرونة بعصبوية قبائلية ضيقة الأفق، ولهذا، كان من الطبيعي أن تتم إعادة تدوير صراع الشطرين السابقين بمتوالية أكثر دراماتيكية، حيث بدأت متوالية الاستباحة لمعنى الوحدة منذ ذلك اليوم البعيد، وتوجت تلك المتوالية الجهنمية بحرب 1994.

لم يكن فرقاء الفعل السياسي المؤسسي بقامة الوحدة ومعناها، وها نحن اليوم نبحث عن مخرج مشرّف لهذا المعنى.. ساعين بكل الجهد إلى الحفاظ على اليمن الواحد، ولو تحت مظلة نظامين أو أكثر، كما قلت وأُكرر تباعاً.

يتساءل المرء بعد مرور 33 عاماً: هل كنا بقامة ذلك الحدث الذي أبهج اليمانيين والعرب في مشارق الأرض ومغاربها.. أم كنا أقصر قامة منه؟ والجواب عن السؤال لا يستحق كبير عناء.. لقد ثبت بالدليل القاطع أننا لم نكن بمستوى الحدث فحسب، بل كنا، وما زلنا، سبباً في تقويضه. وهنا، لا بد من توجيه أصابع الاتهام، لمن يتحملون المسؤولية الأولى والأكثر جسامة في معادلة الفعل.

لقد تشكفت النوايا منذ الأيام الأولى لوصول قوافل القادمين من عدن، الحالمين بمجتمع ألفي فاضل. وكانت رصاصات الاغتيال الجبانة خير شاهد على تدمير الوحدة، وحالما وصلت الأمور إلى ذروتها في حرب 1994 المشؤومة، كان الحلم يترنح تحت أقدام العسكرتاريا الجاهلة المتدثرة بالأوهام..

لقد تحولت المحافظات الجنوبية إلى ساحة غنائم على نمط القرون الوسطى، وتم تدمير مؤسسات الدولة الجنوبية السابقة، بصورة تتناسب مع اندفاع المنتفعين الجشعين، وكانت فرمانات السلطان بصنعاء خير غطاء لكل تلك التجاوزات، التي لم يشهد اليمن مثيلاً لها من قبل. اليوم، ونحن نتذكر هذه البلايا، نتساءل:

كيف يمكننا الارتقاء إلى مستوى الوحدة، بوصفها قيمة مادية وروحية تتناسب مع اليمن الكبير الواسع؟ وهل يمكننا الارتقاء إلى معنى الوحدة، في الوقت الذي تستمر فيه كل الانتهاكات الماثلة لأبسط قيم الحياة؟ وكيف لنا أن ننعتق من رزايا الماضي القريب، والبعض يصر على استمرار النموذج القائم الذي كان، وما زال، سبباً في ما نحن عليه؟

رؤيتي أن الذهاب إلى يمن واحد في نظامين، قد يكون المخرج المشرف والمنطقي من هذه الحالة، ذلك أننا بهذا الخيار سنحقق ما كنا نتوق إليه، ونستعيد الدولة المنهوبة، ونخلق المقدمات الضرورية لمظلة ضمان وطني تسمح للجميع بالمشاركة، ونحقق جوهر المواطنة القانونية، في بلد موحد ومتعدد في آن..

لكن استيعاب الفكرة وأبعادها يتطلب همماً عظيمة، وروحاً مفتوحة، وعقولاً رائية. إنها إرادة النخب السياسية العالمة بالحال والمآل. فالفرق بين النخب وعامة الناس نسبي، وحتى إذا افترضنا أن النخبة تتميز بالثقافة العالمة، فإن من يمكن أن يلتحقوا بعامة الناس، لهم الحظ الكافي من تلك الثقافة، وتبعاً لذلك، تصبح ميزة كل طرف من الطرفين الافتراضيين، ميزة نسبية بكل ما في الكلمة من معنى.

لكنني هنا بصدد الحديث عن النخبة المسؤولة في ظل أوضاع استثنائية، ما يقتضي أن تكون ذات همة ونظر مترافقين مع التحديات الماثلة، وخاصة تلك التي لا تقبل التأجيل والتمديد واللزوجة. ولعل أخطر ما تواجهه الدولة اليمنية المخطوفة رغماً عنها، يتمثل في عنجهية بعض الذين يناجزون المؤسسة، ويستفزون مشاعر الأمة بأعمالهم غير المقبولة، عقلاً ومنطقاً وخُلقاً وقانوناً وعرفاً.

فمن كانت لديه شكوى أو يزعم أنه متضرر، له أن يلجأ إلى الطرق الشرعية في متابعة مظلمته.. أما أن يبرر سلوكه المشين ضد كل الناس بكونه صاحب مظلمة، فذلك أمر يشي بما وراء الآكام والهضاب من تدابير تتوخَّى تدمير الوفاق الوطني، الذي قد يفتح باباً مؤكداً لمستقبل مشرق.

إن استمرار هذه الحالة يقتضي من النخبة السياسية المعنية بالقرار، مواجهة الحقيقة السافرة، أو التخلي عن مواقعها لقوى الشر والعدوان. فكل صغيرة وكبيرة في مثل هذه الظروف، تتقمص أبعاداً شاملة، دونها التحدي الكبير الذي يواجهه اليمن بعد 33 عاماً من تحقيق وحدة مايو الناقصة.. تلك الوحدة التي تتطلب إعادة مأسستها المنطقية، على قاعدة الوحدة في نظامين أو أكثر.

 

Email