التسوية السياسية للأزمة السورية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد أكثر من عامين على المراهنات العسكرية في الأزمة السورية، فإنّ هذه المراهنات قد وصلت إلى طريقٍ مسدود، إذ لم تنجح الحكومة السورية في إنهاء الأزمة من خلال حلّها الأمني الذي اعتمدته منذ بداية الحراك الشعبي، كما لم تنجح قوى المعارضة التي اختارت عسكرة هذا الحراك الشعبي في إسقاط النظام، بل إنّ خيارها هذا أدّى إلى تصعيد العنف، وإلى فتح أبواب سوريا أمام قوًى مسلّحة متطرّفة أعلنت جهاراً ارتباطها بجماعات "القاعدة"، المنبوذة عربياً وإسلامياً ودولياً.

وأصبح مزيج الأمر الواقع على أرض سوريا، هو صراعات محلية وإقليمية ودولية، وحالات من الحرب الأهلية والعنف السياسي والطائفي والإثني، إضافةً إلى وجود قوًى تُمارس الإرهاب الدموي وتهدّد وحدة الشعب السوري، وأصبحت كل سوريا أمام خطر الانزلاق إلى التشقّق وتفكيك الكيان والدولة والمجتمع. وهذا المزيج السيئ من واقع الصراعات واحتمالات نتائجها، هو ما يجعل نيران الحرب السورية مصدر خطرٍ كبيرٍ أيضاً على الدول المجاورة لسوريا، بل على كلّ دول المنطقة.

لكن هذه المخاطر كلّها غير كافيةٍ وحدها لدفع الدول الكبرى، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة، للسعي الجاد لإنهاء الحرب السورية، ما لم تكن مصالح هذه الدول تتعرّض للضرر من جرّاء استمرار الأزمة، وهو ما يحصل الآن، حيث أصبح "الملف السوري" هو العقبة الأبرز أمام التفاهم المنشود بين واشنطن وحلف "الناتو" من جهة، وبين روسيا والصين من جهةٍ أخرى.

لذلك كانت زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى موسكو واتفاقه مع القيادة الروسية على رعاية مؤتمر دولي في جنيف بشأن سوريا، خطوة مهمّة جداً لإنهاء الحرب، وتحقيق تسوية سياسية لنزاعٍ أصبح من الصعب التحكّم في تداعياته السياسية والجغرافية والأمنية.

إنّ الاتفاق الأميركي - الروسي بشأن صيغة التسوية السياسية لأزمة سوريا، هو الذي سيحدّد مصير قمّة مجموعة الثماني المقرّرة منتصف الشهر القادم في المملكة المتحدة، وكذلك مصير الأجندة التي وضعتها إدارة أوباما لنفسها في المسائل السياسية الخارجية والعلاقات مع القوى الكبرى في العالم، ولمستقبل أزمات دولية أخرى معنيّة بها واشنطن، كالأزمة مع كوريا الشمالية و"الملف النووي الإيراني" وأفغانستان و"الملف الفلسطيني" ومستقبل الصراع العربي- الإسرائيلي.

إنّ سوريا قضية حاضرة الآن في كل الأزمات الدولية، ومصير الحرب المشتعلة فيها، أو التسوية المنشودة لها، هو الذي سيحدّد مصير الأزمات الأخرى. كذلك، فإنّ استمرار الحرب يعني استمرار التأزّم مع موسكو، ويعني مخاطر حرب إقليمية تشترك فيها إسرائيل وإيران ولبنان والأردن والعراق، إضافةً إلى التورّط التركي الكبير الحاصل في الأزمة السورية ممّا قد يؤدي إلى تورّط "الناتو" عسكرياً، وهو أمرٌ لا ترغب فيه ولا تقدر عليه الآن الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون.

إنّ واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي ترغب وتريد الآن تفاهماتٍ مع روسيا والصين، تساعد على النمو الاقتصادي العالمي، وعلى الانسحاب المشرّف من أفغانستان، وعلى حلّ الأزمة مع كوريا الشمالية، وعلى تجنّب المواجهة العسكرية مع إيران، التي تدفع نحوها إسرائيل منذ سنوات. كما تريد واشنطن مزيداً من التنسيق مع موسكو في رعاية مستقبلية لمؤتمر دولي خاص بـ"الشرق الأوسط" والملف الفلسطيني.

أيضاً، فإنّ مخاوف إدارة أوباما من زيادة نفوذ جماعات التطرف المسلّحة في سوريا واحتمال انتشارها إلى دول مجاورة، لا يمكن إزالتها من دون تسوية سياسية للحرب الدائرة في سوريا وعلى سوريا. فكلّما زاد التصعيد العسكري، زاد نفوذ هذه الجماعات وتأثيرها على مستقبل الأحداث في عموم المنطقة. ولا خيار أمام إدارة أوباما الآن إلاّ البحث عن تسوية سياسية، إذ ليست واشنطن في وارد التدخّل العسكري المباشر، ولا هي تثق في مصير السلاح الذي يمكن أن تقدّمه لبعض قوى المعارضة السورية.

وقد كانت هناك مراهنات (إقليمية وغربية) تحبّذ وترغب في استخدام تركيا في واجهة الصدام العسكري مع القوات الحكومية السورية، كاستكمالٍ لدور تركيا السياسي الحاضن لبعض قوى المعارضة السورية ولعناصر عسكرية متمرّدة على النظام السوري.

وربّما كان في تقديرات هذا "البعض" أنّ ذلك مناسبٌ جداً في حال تدخّلت إيران لصالح حليفها السوري، بحيث يكون الصراع العسكري في المنطقة هو "إسلامي - إسلامي" و"عربي -عربي"، من خلال ما سيحدث من فرزٍ بين دول وأطراف عربية وإسلامية داعمة لهذا الطرف أو ذاك.

وكانت هذه المراهنات منطلقة أصلاً من الخلاف الحاد الحاصل الآن بين دمشق وأنقرة، ومن دعم الحكومة التركية لجماعات حزبية سورية إسلامية لها تاريخ طويل من الصراع مع الحكم السوري، ممّا يساعد أيضاً على استخدام هذه الجماعات كقوى ضغطٍ إقليمية ودولية، من خلال وجودها الآن في حكومات ومنظمات شعبية.

كانت المراهنات أن يكون ذلك هو البديل الأفضل عن المواجهة العسكرية الغربية المباشرة مع إيران، والتي هي مُكلفةٌ جدّاً للغرب وغير مضمونة النتائج. ولا ننسى أنّ السياسة "الأطلسية" السابقة كانت تراهن قبل العام 2011 على إضعاف إيران من خلال استقطاب دمشق ومغازلتها، وبسياسة العزل للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية.

هذه المراهنات وصلت حتّى الآن إلى طريقٍ مسدود، كما هو أيضاً الخيار بالحلّ العسكري عند كلّ طرف. وستكون العقبة الكبرى أمام أي صيغة تسوية سياسية جادّة للأزمة السورية، هي جماعات التطرّف المسلّحة على المستوى الداخلي، وإسرائيل ومن لديها من عملاء أو حلفاء على المستويين الإقليمي والدولي. فلا مصلحة لهذين الطرفين في إنهاء الصراع الدموي في سوريا، أو في التفاهمات الدولية وما قد تفرزه من نتائج سلبية على كلٍّ منهما.

هناك "مشاريع دولية" لسوريا وللمنطقة، وهناك "مشاريع إقليمية" أيضاً، أخطرها "المشروع الإسرائيلي" العامل على إشعال حروب طائفية ومذهبية في عموم العالمين العربي والإسلامي، لتكون "الدولة اليهودية" هي القوة المهيمنة على كل الدويلات الدينية الممكن إخراجها إلى حيِّز الوجود، بفعل التفاعلات المرجوّة إسرائيلياً الآن من أحداث سوريا.

وممّا سبقها ويرافقها من أحداث طائفية ومذهبية وإثنية في كلٍّ من لبنان والعراق والسودان ومصر واليمن والبحرين وتركيا وباكستان، وغيرها من دول العالم الإسلامي. لكن المؤسف أنّ كلَّ ذلك يحدث على أرض عربية، في ظلّ غياب "مشروع عربي"، وغياب المرجعية العربية الصالحة.

 

Email