قراءة الآخر لمتغيرات المشهد العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تتغير الحسابات الروسية الصينية تجاه المتغير العاصف في المنطقة العربية، وفي المقابل لم تتغير الحسابات الأميركية تجاه هذا المتغير. فالحيرة في التعامل مع هذه المتغيرات سمة بدت ظاهرة عند إدارة أوباما، المثقلة بموروث الجمهوريين الجدد في أفغانستان والعراق والصومال، بينما يتسم الموقفان الروسي والصيني بقدر من الثبات النسبي، المقرون بمناورات دبلوماسية روسية، مع قدر واضح من توزيع الأدوار والبراغماتية السياسية على النمط السوفيتي.

روسيا التي أيدت الحل السياسي التوافقي الانتقالي في اليمن، تستشعر الآن أنها ليست مع ذات الحل في الشأن السوري، كما لا تخفي خيبة أملها من غيابها الفعلي في الحالة الليبية التي آلت إلى إسقاط نظام القذافي، بموازاة حضور إسلامي سياسي تخشاه روسيا أكثر من غيرها.

هنا لا بد من ملاحظة أن العمق "الأوروآسيوي" الروسي يعني تماماً حالة تماس جغرافي وتاريخي مع الإسلام، وتلك الحالة لا تشبه البتة ما عليه الأمر في الولايات المتحدة، ومن هذه الزاوية بالذات، تقرأ روسيا المشهد السياسي المجير على إسلام السياسة، بعدسات أكبر وأوسع. والمعروف أن روسيا الاتحاد السوفيتي السابق لاقت الأمرين في أفغانستان.

وكانت رؤوس الحراب الموجهة لها ذات طابع ديني في الظاهر، غير أنها لم تكن كذلك في الجوهر. فقد مثلت الحرب الأفغانية الأولى على عهد الاتحاد السوفيتي، ذروة الحرب الباردة المعلنة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وبدت موسكو وحيدة في ساحة المواجهة، بالقدر الذي تم فيه تجييش المجاهدين العرب الأفغان وغيرهم ليقوموا بـ"حرب مقدسة" بالوكالة.

تلك الذاكرة الروسية لم ولن تخبو في المدى المنظور، ولذلك تتوجس موسكو من أنظمة ما بعد الربيع العربي ذات الطابع الإسلامي السياسي، ليقينها بأن هذا المتغير سيطال الفناء الخلفي الواسع في جنوب روسيا الكبرى.

وعلى خط متصل، تنظر الصين إلى ما يجري في المنطقة العربية، في أفق يتسع لتطلعاتها الاقتصادية وإصرارها على تجاوز التفوق التقليدي التجاري للولايات المتحدة وأوروبا.

ولهذا تسعى الصين جاهدة لتليين التشبيكات المعيارية، التي تتعمد الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية تمريرها عبر المنظمات الدولية ذات الصلة بمعايير التبادل التجاري، بما في ذلك نظام الأفضليات التجارية الجمركية الأميركي الأوروبي، الذي يحد من تغلغل الصين في التجارة الدولية على خط القارتين الأميركية والأوروبية.

ويحرص الصينيون على ترك مسافات واسعة ومفتوحة في علاقاتهم الشرق أوسطية، على قاعدة عدم التورط من جهة، وعدم التدخل المباشر في الشؤون الداخلية لدول المنطقة. وهذه النظرة تجد لها رجع صدى آسيويا مؤكدا، تنخرط فيه الهند وأندونيسيا، وكأن التماهي الآسيوي في قراءة المشهد العربي، يمثل ركنا ثالثا مقابل الموقفين الأميركي والروسي.

قبل عام شاركت في ندوة دولية حول ظاهرة الربيع العربي، في عاصمة الهند نيودلهي، نظمتها جامعة "مولليا إسلاميا" الهندية بمشاركة كوكبة من أساتذة الجامعات، وخبراء عليمين بالشأن العربي، ولفيف من المعنيين العرب وغير العرب. وقد لاحظت أن القراءة الهندية للمتغير في المنطقة العربية، ليست قراءة ذات طابع واحد حصريا.

ولكن المشترك فيها هو عدم إطلاق أحكام قيمة سياسية مسبقة، والتأكيد الدائم على أن أي متغير في العالم العربي لا يعني بحال من الأحوال مغادرة الآليات السابقة بين عشية وضحاها، وأن حجم الآمال المعقودة على هذا المتغير ينبغي أن يكون متواضعا.

وقد دهشت شخصيا من سلسلة القراءات الهندية الإبستمولوجية للحالة العربية، وعرفت يقينا أن الأمم لا تحلق في ذرى النجاح والفلاح بالصدفة، وأن الفكر الآسيوي بعامة يمثل للعرب رصيدا معرفيا وتجريبيا يستحق منا الاستفادة.

مما سبق نصل إلى جملة من الاستنتاجات المهمة، أبرزها أن روسيا والولايات المتحدة ما زالتا مشدودتين لموروثات الحرب الباردة، المنعكسة سلبا على الحالة العربية، وأن الصين تتطلع إلى قطف ثمار الحالة القائمة، من خلال تكريس فتوتها العالمية في النجاحات الاقتصادية، وأن الهند وجل البلدان الآسيوية، باستثناء إيران، ينظرون لما جرى ويجري في المنطقة العربية بعدسات منفرجة لا تلغي الماضي وتبعاته، ولا تغفل الحاضر ووعوده.

أتمنى على عرب المخاض العسير استقراء الرؤى والمواقف الأكثر حكمة، لنشاهد أنفسنا بعدسات الآخرين، ولنفتح مسافات منطقية بين الآمال والحقائق، كما بين الحقيقة والخيال.

 

Email