الكبار كالدِّببة ينْكمشون دون موت

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المعروف سياقاً وضمناً، أن أي حديث عن الاقتصاد هو حديث عن السياسة، فالاقتصاد الناجح رديف السياسة الرشيدة، والعكس بالعكس. وإذا انتقلنا مباشرة إلى الاقتصاد الدولي في ثباته ومتغيراته، فإننا سنعود إلى الأسس التي انبنى عليها هذا الاقتصاد.

وسنرى أن نتائج الحرب العالمية الثانية شكَّلت بداية النظام النقدي والتجاري والاستثماري الدولي للقرن العشرين. وقد تفارق ذلك النظام إلى مستويين عالميين، وكانت الولايات المتحدة تمثل رأس الحربة في أحدهما، والاتحاد السوفييتي يمثل رأس الحربة في الثاني.

وقد اختلفت منطلقات ورؤى وفلسفة النظامين، وظلت محور ارتكاز المرجعيتين العالميتين في الاقتصاد، حتى اللحظة التي باشر فيها الاتحاد السوفييتي سقوطه الحر، وتفككه المنهجي، وما تبع ذلك من انهيارات شملت كامل المعسكر الذي كان ينتمي لذلك النمط.

خلال فترة الحرب الباردة ساد توازن عالمي ملغوم باحتمالات صدام كوني، وقد كان للاتحاد السوفييتي على عهد "برجينيف" قصب السبق في تقديم سلسلة تنازلات من طرف واحد، وذلك بحسب المدونات المرصودة في المنظمات الدولية ذات الصلة، غير أن الريبة الأميركية كانت قد وصلت إلى حد متقدم، وكانت الولايات المتحدة تجزم بأن تنازلات السوفييت من طرف واحد، سببها التفوق الكمي في الأسلحة النووية لديهم، وأن تلك التنازلات لن تخل بميزان التفوق الكمي السوفييتي.

وفي المقابل كان معسكر التشدد السوفييتي على عهد "أندروبوف" القصير، يرفض مثل هذه التنازلات، ويعتقد جازماً أن صراع المعسكرين لن يحل إلا بالوصول به إلى ذروة الصدام، وهذا الفريق بالذات مهَّد من حيث يدري أو لا يدري للريغانية السياسية الأميركية، التي اجترحت برنامج حرب النجوم، ونظرية الشرق الأوسط الكبير، وحتمية الصدام بين الروس والأميركان. كان الاقتصاد السوفييتي حينها يتمتَّع بوفر كبير في الخامات والمنتجات الزراعية والنفطية والغازية، بل وأنماط واسعة من اقتصاديات التعدين.

كما كان يستمد عمقه التكاملي من عالم بكامله يتحالف مع الاتحاد السوفييتي. وكان الاقتصاد الأميركي يستمد قوته من المرونة الاقتصادية المقرونة بحيوية براغماتية، وتشجيع المبادرات الحرة، بالإضافة إلى العمق التحالفي الأوروبي والعالمي أيضاً.

بسقوط الاتحاد السوفييتي بدت الصورة لصالح الولايات المتحدة، واندفعت المؤسسات المالية والاستثمارية والتجارية الدولية لتعميم مرئيات "الغرب السياسي"، المنتصر منذ الحرب العالمية الثانية، وحتى الحرب الباردة، وتموْضعت الولايات المتحدة على رأس الظفر العسكري التاريخي المعاصر.

كان هذا الاندفاع دليل اعتقاد جازم بانتصار الرأسمالية على الاشتراكية، وبأن النموذج الأميركي بالذات، يُمثل قمة النجاح في عالم الرأسمالية الاقتصادية، وفي تلك اللحظة بالذات استشعرت أوروبا الغربية المتحالفة استراتيجياً مع الولايات المتحدة، أنها منظومة اقتصادية تجاوزها الزمن.

وأن العقل المالي والاستثماري اليميني في الولايات المتحدة لم يعد يقبل أوروبا القديمة التي انشغلت على خط "أنْسَنة" الرأسمالية، مُتناسية قوة دفعها الأولى النابعة من قانون العرض والطلب، المقرون بحرية الأسواق، وتدافع فرقاء الإنتاج المادي والروحي، على قاعدة ارتقاء القوي ودحر الضعيف.

كان التلاشي والخبو المؤقت لروسيا على عهد "يلتسن"، سبباً من أسباب تغوُّل النموذج الأميركي في شكله الأكثر يمينية، وترادف هذا التغوُّل الواضح مع دعوات صينية فرنسية لنظام عالمي متعدد الأقطاب، لكن الرد الأميركي كان أكثر وضوحاً. لقد اعتبر اليمين الأميركي ذلك التحالف بمثابة تحالف للضعفاء، ووصفت أروقة الإعلام الأميركي رؤساء أوروبا الاشتراكيين بأنهم ديناصورات منقرضة.

ومُستحاثات تصلح للعرض في المتاحف التاريخية. وهكذا استمرت الولايات المتحدة في تأصيل الريغانية المتوحشة، بشكليها الاقتصادي والعسكري، وشهد العالم فظاعات سبتمبر وما تلاها من حرب شاملة، وصولاً إلى الأزمة المالية الدولية الماثلة.

خلال فترة الاندفاع الأميركي بسرعة الضوء، تنامت الصين بسرعة الضوء أيضاً، وخرج "الدب الروسي" من بياته الشتوي، ليمتشق حسام المقارعة ويسجل انتصارات كاسحة، داخليا وإقليميا، تمهيداً لدور دولي تتبلور ملامحه اليوم. فعلى المستوى الداخلي سجلت روسيا مؤشرات نمو مشهودة، فيما تعززت علاقاتها التكاملية مع دول الاتحاد السوفييتي السابق، التي عادت إلى بيت الطاعة بعد أن تأكد لها أن روسيا هي السند والضمان لها في الملمات.

وعندما تمردت جورجيا بالترافق مع أصابع أميركية إسرائيلية، كان التدخل العسكري الروسي بمثابة رد بليغ على حلفاء أميركا في فناء روسيا الخلفي. وفي المقابل ناجزت الصين المركز المالي والتجاري الأميركي، من خلال مطالبتها بتطبيق قوانين التجارة والاستثمار الدوليين، بحسب الرؤية الأميركية بالذات، وهو ما أحرج ويحرج الإدارة الأميركية.

اليوم يتجه الاقتصاد الدولي نحو منطقة رمادية، فإما إصلاح الآليات التي اعتمدت بعد الحرب العالمية الثانية، واستتباعاتها القاهرة بعد الحرب الباردة، وإما أن يشهد جزء من العالم الكبير انهياراً مالياً يترجم معنى الانهيار الاقتصادي.

وأقول: جزءاً من العالم، لأن الكبار قد بدأوا لتوهم ترتيبات حمائية داخلية تجعلهم ينكمشون دون موت، تماماً كما تفعل الدببة الروسية في موسم البيات الشتوي. لكن الاقتصادات الصغيرة غير القابلة لانكماش إجرائي منظم، ستدفع ثمن أي انهيار مالي، ومواجهة موت محقق ستكون من آثاره المرعبة حروب ومجاعات.

على العقل الجمعي العالمي، البحث الجاد عن إصلاح النظام النقدي والتجاري الدولي، كتوطئة أساسية لإصلاح النظام الاقتاصدي الدولي المتشابك حد الاشتباك. ومن الناحية المنهجية الصرفة، أن يتم التفريق إجرائياً بين الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة.

والمشهورة باسم "الغات" من جهة، ومنظمة التجارة العالمية من جهة أُخرى، مع الإشارة إلى أن استبدال اسم ما لا يُلغي كامل الأدبيات والموروث الممارسي التاريخي، النابع من رؤية كانت وما زالت تعيد إنتاج نفسها في كلتا الصيغتين السابقين.

جوهر الأمر يمكن في ترجمة مرئيات الرأسمالية الدولية، في طورها الأميركي الأكثر وحشية. فمنظمة التجارة العالمية حلت محل "الغات" منذ 1995، اسماً ورسماً لا جوهراً، وهي تنطلق من ذات الموروث، وتباشر ذات المهام المُجيَّرة على ثنائية الصندوق والبنك الدوليين.

وأن تكون مناسبة إطلاق المنظمة بعد بريستوريكا غورباتشوف، أمر لا يخفى مغزاه على أي لبيب، وقد رافقت تجديد الانطلاقة "المظفرة" تعاميم قسرية، وروشتات إلزامية لصندوق النقد الدولي، جعلت الصغار والكبار في ذات الملعب الحُر للمنافسة! وكان من نتائج تلك المباراة غير العادلة، مزيد من الهوة الاقتصادية بين شمال وجنوب العالم، وكان من نصيب بلداننا المغلوبة على أمرها في الجنوب العالمي، الثراء غير المشروع للمتنفذين، مقابل الفقر المدقع للملايين..

مقطع القول، أننا إزاء حقائق تنبئ عن فظائع، فماذا نحن فاعلون؟

 

Email