أميركا والاستناد إلى الجدارة

ت + ت - الحجم الطبيعي

رغم كل ما يشهده عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما من حديث عن الانهيار، فإن هناك سبباً واحداً على الأقل للاعتقاد بأن أميركا لن تنهار، على الأقل ليس بعد.

كان يفترض في "الذروة النفطية" و"إدماننا على النفط"، أن يضمنا افتقارنا إلى الوقود أو إلى المال اللازم لشرائه، والآن أصبحنا نملك فجأة من الغاز والنفط ما لم نملكه من قبل قط. ولكن السؤال الأساسي هو: ما السبب في ذلك؟

لقد نجمت نهضة النفط والغاز عن تقنيتي الحفر الأفقي والتكسير، اللتين فتحتا المجال أمام احتياطيات هائلة جديدة، إما لم تكن معروفة سابقا، أو اعتبرت غير قابلة للاستخراج

. وكان هذان الاختراقان التكنولوجيان اكتشافين أميركيين، أحرزهما إلى حد كبير أشخاص مستقلون ومهندسون مغامرون، عكفوا على التنقيب في أراض خاصة غالبا. ألم يكن في وسع صناعة النفط الفنزويلية أو النيجيرية اكتشاف هذين الأسلوبين الجديدين لاستخراج الموارد، نظرا لاعتماد دولتيهما على تصدير النفط؟

يستيقظ العالم الآن على التواصل بواسطة أجهزة "آي فون"، والشراء عبر موقع "أمازون"، والتواصل الاجتماعي عبر "فيسبوك"، والبحث عبر موقع "غوغل"، والكتابة والحساب باستخدام برامج "مايكروسوفت".

 لماذا لم تطوَّر هذه الابتكارات أولا في اليابان أو الصين أو ألمانيا، وكلها دول صناعية غنية تضم شعوبا كبيرة ومتعلمة ومجتهدة؟ لأنه يرجح لغريبي الأطوار اليافعين، مثل جيف بيزوس أو بيل غيتس أو ستيف جوبز، أن يحتاجوا، في مثل تلك الدول، إلى النسب أو العمر أو الصلات العائلية أو الموافقة الحكومية المناسبة، لكي يحظوا بمعاملة منصفة.

حتى في قرنها الثالث، لم تزل أميركا تعتبر الدولة الأكثر استنادا إلى الجدارة في العالم.

وخلافا للنظام الطائفي في الهند، أو الاعتبارات الطبقية في أوروبا، أو التجانس العنصري في الصين أو اليابان أو كوريا، أو القبلية في إفريقيا، أو التقيد الصارم بتعاليم الدين في الشرق الأوسط، فإن أميركا تبقى مكانا يتيح للمرء أن يقدم فكرة أو اختراعا أو بروتوكولا جديدا، يتم الحكم عليه بناء على مزاياه، وليس بناء على خلفية أو لهجة أو عرق أو جنس أو سن أو دين الشخص الذي يقدمه.

وتقيّم الشركات المقترحات على أساس ما يجلب لها الكثير من المال، فيما يريد الناشرون كتابة يقرأها الكثير من الناس، فالثقافة الشعبية هي مجرد انعكاس لما يبدو أن الأغلبية تريده. وعلى المدى الطويل، فإن تلك النتيجة النهائية تقود إلى الثروة الوطنية والسلطة.

وإذا أمكن الاستدلال بالتاريخ، فإنه ليس من شأن أذكى مواطن صيني من أصل ياباني، أن يشغل منصبا رفيعا في الحزب الشيوعي الصيني، كما ليس من شأن مواطن ياباني لامع من أصل صيني، أن يدير شركة "تويوتا" أو "هوندا". ولا يمكن لكرواتي أبيض متألق الموهبة، أن ينتهي به المطاف رئيسا للسودان.

ويستخدم المكسيكيون كلمة "رازا"، التي تجمع بين العرق والجنسية، بالطريقة نفسها التي استخدم بها الألمان كلمة "فولك"، ليس فقط للإشارة إلى كون المرء ألمانيا، ولكن أيضا إلى كونه ألماني المظهر. أشك في أنه من شأن أي من هاتين الدولتين، أن تنتخب رئيسا أسود يوما ما.

إن المزج بين الرأسمالية الاستهلاكية وحرية التعبير المحمية دستوريا، فضلا عن جميع أنواع الأعراق والأديان والإثنيات، يعني أحيانا تحوّل أميركا إلى مكان بري ذي ثقافة شعبية، تبدو فجة وغير مألوفة بالنسبة لمن هم في الخارج.

إن ديوننا الوطنية البالغة 17 تريليون دولار، واستحقاقاتنا غير الممولة، واعتماد ما يقرب من 50 مليونا منا على طوابع الغذاء، قد تقنع آباءنا المؤسسين بأنهم ولّدوا الفجور بدلا من الحرية المضمونة. ومع ذلك، فإن ميزة الساحة البرية الأميركية، هي أن الجميع تقريبا لهم حرية الدخول إليها. فأوبرا وينفري، وهي امرأة من أصل إفريقي، تعيد تشكيل البرامج الحوارية النهارية، وتبني إمبراطورية إعلامية. ووارين بافيت، من ولاية نبراسكا، يسبق "وول ستريت" في نيويورك.

وسام والتون، الذي كان يملك متجرا للسلع الرخيصة، يعيد صياغة الطريقة التي يشتري بها سكان الكوكب بأسره أشياءهم. وسيرغي برين، وهو مهاجر روسي، يشارك في تأسيس "غوغل"، الذي ربما يعد الموقع الأكثر ضرورة على شبكة الإنترنت.

وبمجرد قراءتنا لمقالات نعي عن دولة مسرفة جامحة، يظهر أشخاص غير معروفين وغير متوقعين ليستحدثوا التكسير أو وادي السيليكون. لماذا؟ لأنه ما من دولة أخرى تملك دستورا من شأن تطوره الطبيعي أن يفضي إلى مجتمع حر يقوم على أساس الجدارة، لا يبدو بالضرورة مثل الأرستقراطية الذكورية البيضاء المتميزة، واللامعة، التي اخترعته.

ولن تحين نهاية النزعة الاستثنائية الأميركية عندما لا يتبقى لدينا أي وقود أو قمح أو أجهزة كمبيوتر، ولكن عندما ننهي حرية الفرد، ولا نحكم على الأشخاص، سواء لأسباب شريرة أو نبيلة، بناء على إنجازاتهم، وإنما بناء على أسمائهم أو طبقتهم أو عرقهم أو جنسهم أو دينهم؛ أي عندما نصبح مثل معظم دول العالم الأخرى.

 

Email