الأماني في الحوار اليماني

ت + ت - الحجم الطبيعي

لاحظ علماء التاريخ أن الانتقالات الكبيرة في المجتمعات البشرية ترتبط بثنائية السبب والنتيجة، لكن هذه الثنائية التي تبدو منطقية، تتجاوز في الغالب المنطق، لتنجز وعداً كان بعيداً، وحقيقةً لم تدُر في خَلد أحد، وقد درج الفلاسفة على تجيير المفاجآت والغرائب في تطور المجتمعات البشرية، لقانون المصادفة النابع من الضرورة، وتلك حالة تم رصدها في عديد المتغيرات العاصفة، والتي حاقت بالبشرية، حتى إن علم التوقع التاريخي تراجع أمام العاصفة الصاعقة للمتغيرات التراجيدية غير المألوفة.

وعند علماء الجدل الفلسفي قانون آخر، هو قانون التراكم الكمي الذي يؤدي إلى تحوُّل نوعي، وهذا القانون الجدلي المستمد من الطبيعة، هو الضابط لما سمي في علم الديالكتيك المادي قانون «نفي النفي»، ومؤداه أن الجديد يخرج من أحشاء القديم، على قاعدة «نفي ما كان والإبقاء على ما سيكون».. لكن المتوالية لن تقف عند هذا الحد، فكل جديد سيصبح قديماً لا محالة..

بهذا المعنى تحدث الطفرات غير المتوقعة والانتقالات الحادة في تاريخ المجتمعات البشرية، ولعل مثالي روسيا والصومال القريبين من الأذهان، خير شاهد على ما نذهب إليه. في الحالة الروسية جاء انهيار الاتحاد السوفييتي خارج نطاق كل التوقعات، حتى بدا كما لو أنه سقوط حر لصخرة اندفعت من علياء شاهق كبير..

ثم جاءت لحظة التفكك الحر أيضاً، لتلك المنظومة الكونية الهائلة، لنشهد انبثاق روسيا الضعيفة الواهنة من مخاض التحول والتفكك، وخلال أيام المُتطيِّر الكبير (يلتسن)، كادت روسيا أن تنقرض كيانياً، ونهش في جسدها الفساد المافيوي، حتى جاءت لحظة انتقال غير متوقعة أيضاً، تمثلت في ذل التسليم الناعم للسلطة من قبل يلتسن للشاب الفتي بوتين، الخارج من رحم المؤسسة العسكرية والأمنية السوفييتية.

وخلال عقد من الزمان لم تتعافَ روسيا فحسب، بل استعادت منعة الاتحاد السوفييتي القديم، مضافاً لها تطلعٌ لدور مركزي في العالم المعاصر، شاهِده الأكثر وضوحاً ما يجري الآن في سوريا. هذا المنحنى المتعرج جداً في تطورات الوضع السياسي منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، فالانهيار المُنظَّم لـ«روسيا يلتسن»، والعودة الصاعدة لـ«روسيا بوتين»، وصولاً إلى المشهد الراهن.. يؤشر تماماً إلى معنى التاريخ السياسي، خارج نطاق التوقعات والتقديرات والحسابات الأبستمولوجية.

هذه الحالة نجد لها مقابلاً تاريخياً في أفق ما، فانهيار نظام سياد بري في الصومال بدا مفارقاً تماماً لأي انهيارات محتملة في تلك الأيام، فلم يسقط النظام بانقلاب عسكري كما كان يجري على عهد الحرب الباردة، ولم يكن يفتقد البنية المؤسسية العسكرية والأمنية.

ولم يكن يفتقد الولاءات الكفيلة بسحق أية محاولة للتغيير، لكن سبباً واهياً كان بمثابة المقدمة الغرائبية لانهيار النظام على حين غفلة من تاريخ المنطق والتفسير. فقد وجد النظام نفسه على موعد مع سقوط مفاجئ مريع، أمام حفنة من المقاتلين الشباب المسلحين برشاشات الكلاشنكوف، فيما سلم الجيش معسكراته وسلاحه الثقيل وكأن قياداته تعيش حالة من التنويم المغناطيسي.

هاتان التجربتان تؤكدان لنا أن قانون التاريخ لا يفهم المنطقين الشكلي والعقلي، وهو أمر كان له حضور وافر في معادلة التسوية السياسية اليمنية، التي أفضت إلى تكامل عناصر الحل الداخلي والإقليمي والدولي، ليستشرف اليمن عهداً جديداً، وليتخطَّى حواجز الماضي الثقيلة.

ومن هذه الزاوية بالذات، يمكن قراءة المتغير المهم في المشهد السياسي اليمني، وخاصة ما يتعلق منه بالقرارات الرئاسية الأخيرة الخاصة باستكمال تنظيم القوات المسلحة، والتي جاءت برداً وسلاماً على الجميع، لأنها بدت انتصاراً مؤكداً لكل من كان مع التغيير،.

كما كانت انتصاراً مؤكداً لرافضي التغيير، ممن أدركوا أن قانون التاريخ قادم لا محالة، وأن من الأفضل لهم أن يلتحقوا بركب البناء والتغيير، على قاعدة المشاركة والاعتراف بأن لكل زمن شروطه، ولكل مرحلة مقتضياتها.

إن استجابة القيادات العسكرية اليمنية لقرارات الرئيس عبد ربه منصور هادي، تدل على حكمة وتمثل رصيداً إيجابياً لصالح من طالته تلك القرارات، ففي الأرض مُتسع للجميع، وليس عيباً أن يتفاوت الناس في تقديراتهم ورؤاهم، ولكن العيب كل العيب في إصرار البعض على التمسك بقوالب ومرجعيات تجاوزها الزمن، واستنفدت أسباب بقائها.

وهذا ما يفترض أن يكون نهجاً للبقية، فالوطن فوق الجميع، والتصالح على قاعدة التغيير هو هدف المستقبل الواعد، وجبر الخواطر والعدالة الانتقالية، أدوات طبيعية للخروج من نفق الظلام، وتحويل الشر المُستطير إلى خير عميم. وعلى خط متصل بمؤتمر الحوار الوطني؛ يرى المراقبون أنه كلما أسرع المؤتمرون في اختيار شكل الدولة ودستورها، أصبح الطريق سالكاً لحلحلة وحل بقية المشاكل التفصيلية.

وبهذه المناسبة يرون أن لجنة بناء الدولة وصياغة الدستور، تحتل مكانة مركزية في معادلة التغيير الهيكلي المرصود في أساس الدستور وبنية الدولة. ومن المؤكد ـ وبهذه المناسبة أيضاً ـ أن وجهات النظر تتباين حول خيار الدولة القادمة.

لكن الجميع على يقين بأن الخيار الاتحادي الفيدرالي المتناسب مع اليمن وخصوصياته، سيكون خيار الحكمة والعقل الذي لا بديل عنه، لتوسيع ملعب المشاركة، وتنويع التنمية، وتعظيم الأفضليات النسبية أينما وجدت، وترسيخ الوحدة الوطنية من خلال الشعور العام بأن الجميع شركاء، وأن الوطن يتسع لمبادراتهم الحرة، وأنه لا فرق بين مواطن وآخر.

نعرف جميعاً أن مثل هذه القيم الرفيعة كانت مسطورة في أدبيات الدولة اليمنية، لكنها كانت معلقة في جدران الرافضين للحق والحقيقة، ممن تسببوا في الحال القائم. واليوم لا مفر من القبض على جمرة الاستحقاق، بحيث تتحول معسكرات المدن إلى حدائق ومُتنزهات لعامة الناس، وتتحرر سواحلها الجميلة من بيوت الخفافيش التي أراد أصحابها المخالفون للقانون، احتكارها لأنانيتهم المكشوفة..

ولا بد أيضاً من تفعيل أنظمة التعاون الزراعي، ومنح صلاحيات ناجزة للمحافظات، على أن تباشر سن الأنظمة والقوانين المتناسبة مع المصلحة العامة، كالحد من زراعة وبيع القات يومياً، على سبيل المثال لا الحصر.. مثل هذه التدابير التوافقية ستتم بسرعة هنا وهناك، وحينها سيعرف الناس ما يخدمهم ويرتقي بهم.

وجه اليمن سيتغير رأساً على عقب، وبأسرع مما نتصور، إذا أدركنا أن نواميس التاريخ تفعل فعلها من خلال ذاكرة مجتمعية صعبة الرصد والإدراك، وأن ما يبدو محنة ونقمة، قد يتحول بين عشية وضحاها إلى نعمة ونماء.

ولهذا وجب التفاؤل وملاحظة كوة النور المنبثقة من دياجير النفق المظلم الطويل، حتى نتَّسق مع شروط التاريخ والجغرافيا.

 

Email