أيضاً ثورة على القات

ت + ت - الحجم الطبيعي

لو لم أقرأ هذا الخبر على موقع محترم وهو موقع جريدة "البيان"، لظننته يقع في خانة تلك الأخبار التي يشيعها البعض على سبيل التسلية أو الشماتة أو تشويه السمعة، أو غيرها من المآرب التي يعج بها ما تعرضه مواقع الإنترنت هذه الأيام. ورغم طرافة الخبر وغرابته، إلا إنه يثير الحسرة والألم في نفس كل عربي، خاصة أنه يحدث زمن ثورات الربيع العربي، وفي بلد امتلأت ساحاته لأكثر من عام بالجماهير من كل الأعمار ومن النساء والرجال على حد سواء، طلباً للتغيير والثورة!

الخبر (المأساة) نشر في 13 من مارس الماضي، وجاء تحت عنوان: "طيار يمني يهبط بطائرته العسكرية لشراء القات"! ونصه: "أن مروحية عسكرية هبطت في منطقة دمت (جنوب اليمن) لغرض شراء القات، الأمر الذي أثار حالة من الهلع والخوف لدى سكان المنطقة خشية من مهاجمتها لهم، وفقاً لصحيفة صدى.

وأضافت التقارير أن أهالي "الحقب" التابعة لمديرية دمت محافظة الضالع، تفاجأوا بطائرة عسكرية عمودية تهبط على مساحة قريبة من محطة بترول تأتي على مقربة من أماكن مخصصة تباع فيها نبتة القات، ليترجل منها الطيار لشراء ما يحتاجه من القات ويعود للتحليق مرة أخرى بطائرته"!

حينما قرأت هذا الخبر العجيب تملكني الحزن والألم، فلو هبط هذا الطيار بطائرته العمودية في تلك القرية ليسعف أحد المرضى أو الجرحى، أو لينقذ عالقين من جراء سيل أو تصادم سيارة أو غيرها من الكوارث الإنسانية والطبيعية، لقلنا إنه أدى واجبه الوطني وبر بقسمه الذي صدحت به حنجرته في حفلة تخرجه من كليته العسكرية، بأن يكون خادماً للشعب، وأنه سخر إمكانيات الدولة في سبيل خدمة مواطنيها ورفاههم، كما ينص عليه دستور الدولة، وكما هو الحال في الدول المتقدمة التي تحترم إنسانية الإنسان..

أما وقد هبط بطائرته العمودية التابعة للدولة اليمنية وقواتها الجوية المسلحة، وسخر "المال العام" تحقيقاً لأغراضه الشخصية، فهذا موضع الحسرة والألم والاستهجان! ويبدو أن الطيار المحترم (وغيره كثيرون في بلادنا الواسعة)، لم يسمع عن المال العام وحرمته وعدم جواز استخدامه لمنفعة شخصية.

وأن القانون يعاقب على ذلك ويدرجه ضمن الفساد الإداري وإهدار المال العام ويعاقب عليه أيضاً! أو ربما حسب أن لا فرق بين المال العام والخاص "فالجيب واحد"، وأن ما وضع تحت تصرفه إنما هو في واقع الأمر ملك شخصي له! إنه لم ترد على مسامعه نداءات شباب الساحات ومطالبتهم بالمحافظة على المال العام ومعاقبة مهدريه، أو هو ربما صم أذنيه عنها وضربها عرض الحائط ولم يكترث كثيراً بها!

بالطبع لم يكترث هذا الطيار أيضاً بتكاليف وقود طائرته وصيانتها، وربما تعرضها للعطل والأخطار، فهذه مدفوعة من قبل "الدولة" ومالها حلال استباحته. أما ترويعه لسكان القرية الآمنة، فهذا آخر أمر فكر به! وهو فوق هذا وذاك غامر بحياته، وضرب عرض الحائط بتعليمات الانضباط الواجب اتباعها، وهبط في منطقة تعج بأفراد ينتمون إلى تنظيم القاعدة أو يناصرونها، فقد كان يمكن أن يكون صيداً سهلاً لنيران هؤلاء.

ونعذر هذا الطيار لو هبط بطائرته إلى تلك القرية ليشترى طعاماً يسد به رمقه، لأنه يشعر بجوع شديد وقاعدته العسكرية خالية من التموين، فالضرورات تبيح المحظورات، أما أن ينزل بتلك الطائرة الحربية ليشتري قاتاً فهذا عسير على القبول! وأمنياتنا أنه "خزّن" ذاك القات بعد انتهائه من دوامه الرسمي، ولم ينتفخ أحد خديه وهو يقود طائرته راجعاً إلى قاعدته!

ما يحزن في كل الربيع العربي، وبالتحديد في المشهد اليمني، هو اختزال الثورة بتغيير رموز النظام، وكأننا لو غيرنا فلاناً واستبدلناه بآخر لتغير الوضع. وهذا تبسيط لعملية معقدة اسمها التطور الاجتماعي السياسي، التي تقتضي تغييراً عميقاً في الثقافة السائدة.

ومن دون تغيير في عناصر كثيرة في ثقافتنا، من قبيل محاربة تعاطي القات وما يسببه من خسارة اقتصادية وصحية، فسنظل ندور في حلقة مفرغة وإن غيرنا الوجوه.

 

Email