تساؤلات عن حضارة اليوم

ت + ت - الحجم الطبيعي

اعتدَّ التدوين الأحادي المركزي الأوروبي بذلك المفهوم المُكرَّس حول ماهية الحضارة، انطلاقا من التنوير النهضوي للقرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد، يوم أن ازدهرت مدن الجنوب الأوروبي بالتجارة والمعامل الحرفية والفنون المعمارية، وبدت كما لو أنها الوريث الشرعي لتراكمات ما قبل تاريخ النهضة، ورغماً عن تغوُّل كنيسة محاكم الغفران القرن أوسطية التي نصبت المشانق والمحارق للعلماء والمفكرين.

تلك النهضة المعرفية الفنية الوارثة للحضارة الإغريقية الهيلينية، بالترافق مع الأفق البيزنطي الروماني، شكَّلت مُقدمة ضرورية لمزيد من ازدهار الموسوعية المعرفية، التي أنجزت ملحمة المبارزة الجدلية الفلسفية بين الميتافيزيكا الدينية والمنطق الديالكتيكي المادي، المُتَّصل جبراً بالقوانين الوضعية، والفصل الإجرائي بين الدين والدولة، وحتَّى العلمانية الأكثر تقطيراً واتصالاً بتركيبة الإنسان عقلاً ووجوداً.

 وأخيرا وليس آخراً سيادة البرهان المادي، انطلاقاً من الجبر الرياضي الذي به تُقاس الحقائق المادية، حتى أصبح البرهان المادي ركن الأركان في تفسير الظواهر والنظر للموجودات، مما تجلَّى لاحقاً في كامل الملحمة الحياتية الأوروبية للقرون التي تلت القرنين الخامس والسادس عشر الميلاديين.

تلك المحطات حددت مفهوم الحضارة وفق التصور الذي صاغته المركزية الأوروبية نيابة عن كل العالم، وهكذا أصبحت التواريخ المغايرة لهذا الهرم (الأوروبي المُقدَّس) مجرد وعاء للهمجية، وكان هذا التعميم الظالم مُنطلقاً لتبرير (تحرير المُتخلِّفين الهَمَج) مما هم فيه، وحتى القناعة بضرورة إلحاقهم بركب الحضارة التي لا يعرفونها.

المفارقة الكبرى في هذا المفهوم المخاتل أن التنويريين النهضويين في القرون الوسطى مازجوا بين التطلع المؤكد لغد أفضل، والمشانق المنصوبة لكل من هب ودب، بل إنهم كانوا المُمهدين الكبار للعنف المقدس الذي أنتج حروب الموت والدمار الدينية والقومية اللاحقة.

وحالما وصلت تلك الحضارة إلى مجد فتوتها الاستكشافية البرجوازية مالت أقدامها نحو تعصبات شوفينية ممزوجة بأديان الشريعة، لنرى حربين كونيتين ما زالتا تُسجلان في التدوين التاريخي المعروف بوصفهما أكبر حربين شهدتهما البشرية إلى يومنا هذا.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف كان لحضارة مُزدهرة تقدم نفسها بوصفها النموذج والمِثال. كيف لها أن تنزلق إلى متاهة هذا العنف المُمتد من همجية (الفايكونغ) إلى شراسة النازية والفاشية المدججة بأوراق السلوفان الكاذبة، بعد أن تكون قد استبقتها بالحروب الاستعمارية الاستيطانية منها والمؤقتة؟

كان المخرج الحصيف (ميل جيبسون) موفقاً في إشارة ختامه لفيلم (الخسوف) الذي كاشف فيه ثقافة العنف التاريخي في حضارة (المايا) في أمريكا اللاتينية.

في تلك الإشارة الصامتة بدا عنف المايا بسيطاً ومتواضعاً أزاء العنف القادم من أعالي البحار، فإذا كان الهنود الحمر يمارسون ذلك العنف الفردي انطلاقاً من قناعات دينية محددة، فإن ذات المصوغ الديني كان رافعةً لعنف جماعي أشد وأقسى، فالمستكشفون لم ينقصهم الوقت ولا التدبير لتحديد خط سيرهم نحو القارة الجديدة، بوصفه خطاً سيمتلئ بالدماء والدموع المُجازة من قبل حَمَلة الصليب المرافقين لقيادات الحملة العسكرية!

هكذا كانت اللقطة: نزل القادمون من بيض الفايكونج الأقحاح من سفينتهم الأوروبية وقد تقدمهم راهب يحمل صليباً، فيما كان قائد الحملة العسكرية (غير الضرورية) يحمل معه مدفعاً سيوجه بعد قليل لصدور السكان الأصليين.

المهاجرون الأول من الأوروبيين كانوا يتدثَّرون بثقافة دينية تَطهرية (بوريتانيين)، وبهذا كانوا يبررون ما يفعلون بالهنود الحمر. لقد هربوا من ظلم مُجايليهم الدينيين المسيحيين ليباشروا ظلماً أشد وأنكى، تماماً كما فعل الصهاينة لاحقاً في فلسطين، فقد جاء هروبهم من النازية والمذابح الأوروبية التاريخية بمثابة المقدمة لما فعلوه لاحقاً بالفلسطينيين العرب. وهكذا تم التطابق بين بوريتانيي الأمس في القارة الأمريكية، وصهاينة اليوم في فلسطين العربية.

يقول مؤرخو ذلك العهد أن القادمين البيض من أعالي البحار أبادوا ما لا يقل عن 40 مليون هندي أحمر, وقد برر البعض تلك الإبادة باعتبارها صراعاً منطقيا بين الحضارة الغربية والهمجية الهندية!

ثم توالت تلك الإبادة بموت نصف المُهجَّرين العبيد من إفريقيا،.. العبد القوي يستحق البقاء لأنه سيخدم سيده بكفاءة الثور، والعبد الضعيف يستحق الموت في البحر جوعاً وعطشاً.

هذه الحقائق الناتئة حد الفجور، تعيدنا إلى السؤال الأول حول ماهية الحضارة، بل تضعنا أمام سؤال الحضارة والهمجية بوصفهما وجهي عملة كانت وما زالت تعيد إنتاج نفسها في كل مكان، حتى إننا ندَّعي بأن لكل شعب حضارته وهمجيته، وهذا بالضبط ما ذهب إليه الشاعر المُتَروحِنْ والفيلسوف الهندي (طاغور)، عندما قال إن وحشية الإنسان ظهرت منذ أن وضع سوراً بينه والطبيعة، ومنذ أن بنى لنفسه بيتاً صغيراً يحجب عنه ضوء الشمس ومعارج الطبيعة.

رؤية طاغور تتقاطع سلباً مع الفلسفة الأوروبية بشقيها المثالي والوجودي، ففي حال المثال الهيغلي لا معنى للماوراء دون جدل فلسفي مادي واضح المعالم، وفي حالة سارتر الوجودي حد الجفاف يكون الإنسان مركز الكون، وكل حقيقة موضوعية تنبع من ذاته، لا من الوسط المحيط، وكأن الإنسان الفرد يقبع في منطقة الألوهة المقدسة، كما لو أنه الصانع لما هو موضوعي!

ومن هنا نرى معنى الغرور الفلسفي عند أوروبا المنتشية بتاريخ العقل والبرهان، وفكرها الخاص الذي جنحت به إلى حد اعتباره مركز الثقل الأكبر في عالم المعرفة والفكر، فمن الإغريق تبدأ الحضارة، وإلى مآلاتها تذهب، وما عدا ذلك ليس إلا عوابر شاردة مازالت تتوه في أفلاك اللا معنى!

لسنا بحاجة الآن إلى تِبيان الأخطاء القاتلة التي وقعنا فيها جميعاً، لكوننا اعتبرنا الكرة الأرضية رهناً لنا ولإرادتنا القاصرة.. لسنا بحاجة الآن إلى معرفة السبب الحقيقي وراء استمرار الوحشية العُنفية بأشكالها الفيزيائية والنفسية حتى نتيقَّن من أننا فعلنا كل ذلك خياراً لا جبراً.

الفوبيا المرضية السائدة، وفوضى الظواهر الطبيعية، والصراعات العدمية المقرونة بثقافة الكراهية المتبادلة، والريبة التي تصل إلى حد السيكوباتزم.. هذه كلها جاءت نتاجاً طبيعياً لاعتقاد بعضنا بأنه يمتلك الحقيقة, وأنه يمثل الحضارة دون من سواه.

Email