أميركا والغياب عن الساحة العالمية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحمّل الجمهوريون والديمقراطيون بعضهم البعض مسؤولية الخفض الوشيك لميزانية الدفاع، نتيجة للمصادرة. ولكن الولايات المتحدة، شأن روما معسرة وبريطانيا عظمى مستنزفة في الماضي، لم تجد بدا من إعادة النظر في التزاماتها الخارجية المكلفة وملفها الاستراتيجي، في ظل عجوزات سنوية متسلسلة تزيد على تريليون دولار، وديون إجمالية تقرب من 17 تريليون دولار.

وكان ترشيح الرئيس الأميركي باراك أوباما لتشاك هاغل لمنصب وزير الدفاع، نوعا من التسليم بالحقيقة المتمثلة في السماح لمحارب جمهوري قديم، بتنسيق مؤسسة عسكرية متقلصة. وفي الواقع، فقد حشد أوباما أنصارا كثر ومتنوعين لرؤيته الانعزالية الجديدة، إذ يعترف صقور الميزانية بأنه لا بد من أن يعاني الدفاع من نصيبه العادل من التخفيضات.

ويريد المؤمنون بحرية الإرادة، استعادة جمهوريتهم، ويكرهون متعلقات الحكومة الكبيرة، التي ترافق التدخل العسكري الكبير في الخارج. واليساريون يوافقونهم الرأي، مضيفين أن الولايات المتحدة لا تملك السلطة الأخلاقية ولا المال الكافي لتنسيق أحداث في الخارج.

وبالنسبة لليبراليين، فإن وجودا عسكريا أصغر في الخارج، يعني استحقاقات أكثر في الداخل. فلقاء كل مقاتلة من طراز "إف-22 رابتور" لا يتم إنتاجها، يتمكن ما يقرب من 20 ألف أسرة إضافية من تلقي كوبونات غذائية لمدة عام كامل.

والرأي العام الأميركي، المرهق من جراء حربي العراق وأفغانستان، لا يرفض أيا من الحجج المذكورة. وإذا اعتقد أجدادنا الأكثر فقرا أن الـ70% التي اقتطعوها من الميزانية الأميركية السنوية، وخصصوها للدفاع بعد الحرب الكورية، كانت لا بأس بها، فإننا، نحن الأكثر ثراء، نصرّ على أن الـ20% الحالية هي نسبة مرتفعة جدا.

والنتيجة هي أننا نقود من الوراء في ليبيا، وفرنسا تقود من الأمام في مالي، وروسيا تعيد، فجأة، ضبط سياستنا لإعادة ضبط العلاقات معها. ويمكن تلخيص السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بعبارة "لا يهم"، نظرا لأننا لا ننزعج كثيرا من حقيقة أن حلفاءنا الاستبداديين البغضاء، يحل محلهم أعداء متشددون أكثر بغضا.

وفي خطابه الرئيسي الأول بصفته وزيرا للخارجية، لم يعرب جون كيري عن قلقه بشأن التطرف، كما أنه لم يحذر الأميركيين من كوريا شمالية مارقة، أو صين تتنمر في المحيط الهادئ وتخترق المواقع الإلكترونية الأميركية، وإنما نبههم بصورة رئيسية إلى الحاجة لبذل جهود جماعية للتصدي لتغير المناخ. والافتقار للألواح الشمسية وطواحين الهواء، وليس الخفض الوشيك لأعداد السفن والطائرات الأميركية، هو فكرة كيري عن الخطر الوجودي الذي يلوح في الأفق العالمي.

وما دامت هناك سياسة خارجية أميركية متماسكة، فإنها ربما تتجسد في عمليات اغتيال تنفذ بواسطة طائرات موجهة عن بعد: كل يومين أو ثلاثة، اقتلوا شخصا أو شخصين يشتبه في أنهما إرهابيان، بأقل تكلفة ممكنة، وبأكبر قدر ممكن من البعد والهدوء.

فكيف سيبدو العالم في الوقت الذي ينسحب عمدته من الصالون العالمي واضعا كلا مسدسيه في جرابيهما؟

لم يسبق لليابان وألمانيا، وهما ثالث ورابع أكبر دول العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي، أن ترجمتا قوتهما الاقتصادية الهائلة في مرحلة ما بعد الحرب، إلى قوتهما العسكرية في مرحلة ما قبل الحرب. ومع ذلك، فإن كلتا الدولتين تستطيعان، من الناحية النظرية، أن تفعلا ذلك بسرعة، وتصنعا الأسلحة النووية بالطريقة نفسها التي تصنعان من خلالها السيارات الجميلة، بمجرد شعورهما بأن أميركا لم تعد ملتزمة وقادرة على حمايتهما من التهديدات الإقليمية.

وفي حقيقة الأمر، فإن مجموعة من الدول الحليفة، بما في ذلك كوريا الجنوبية وتايوان والفلبين، سوف تشكل دول مواجهة حامية، في حال قام الجيش الأميركي بإخلاء جاراتها السيئة. ويعج العالم بالمناطق الساخنة، إلى جوار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

فبحر إيجة وقبرص، والجمهوريات السوفييتية السابقة، وجزر فوكلاند، وأميركا الوسطى، ودول البلطيق.. كلها هادئة على نحو مخادع. فالجهات العدوانية المحتملة في المنطقة، لا تعرف تماما كيف يمكن للجيش الأميركي أن يرد، وهي لا تعرف سوى أنه رد فيما مضى، وفعل ذلك بسهولة.

ونحن نأسف على ما خسره الأميركيون من دماء وأموال في أفغانستان والعراق، غير أن المتطرفين يقرون، سرا، بأن الجيش الأميركي قتل ألوفا من المتشددين في كلا البلدين، ويأملون ألا يقابلوا في حياتهم، الجنود الأميركيين في ساحة المعركة مجددا. وبطبيعة الحال، فإن دولة لا تستطيع توفير المال اللازم ولا الحفاظ على استعدادها للإشراف على السلام الدولي، لا تملك الحق في مواصلة المحاولة.

ولكن في إطار تحررنا من تكاليف وأعباء حفظ النظام العالمي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية، فقد يسعنا، على الأقل، أن نعترف بالحقيقة، الماضية والحاضرة: كما كان العالم مكانا أفضل بكثير بعد عام 1945 بسبب تدخل الولايات المتحدة، فإنه سيصبح، على الأرجح، مكانا أسوأ بكثير بسبب الغياب الأميركي المتزايد.

 

Email