ذِكرى تنفع العرب

ت + ت - الحجم الطبيعي

قليلون هم الذين يذكرون أو يتذكرون المسيرة التاريخية للصومال، الذي يستحق وقفة استرجاع وتأمل في زمن "الربيع" العربي. فقد نشأت جمهورية الصومال إثر مغادرة الإيطاليين للجنوب والبريطانيين للشمال، وهما الإقليمان اللذان اتحدا طوعاً وشكَّلا جمهورية الصومال.

وقد ترك الإيطاليون نموذجاً برلمانياً على غرار النموذج الإيطالي، وهو النموذج الذي ساد منذ استقلال البلاد في الأول من يوليو عام 1960، واتّسم بقدر كبير من التطور المُجافي لطبيعة البيئة القبلية التاريخية.

وقد كان الأصل في حاكمية الدولة البرلمانية الناشئة، هو التبادل السلمي للسلطة، والتعددية الحزبية، وقدر واضح من الليبرالية السياسية، التي تبلورت على وجه أخص في العاصمة مقديشيو.. أمّا الإخوة القادمون من شمال الصومال والذين ارتضوا الوحدة طوعاً، فقد تفاعلوا مع النموذج الإيطالي حد الاحتياط، ولم تكن هنالك مشاكل قبائلية أو عرقية طوال فترة الرئيس الحكيم "آذن عبد الله عثمان"، أول رئيس للجمهورية الناشئة.

وفي انتخابات برلمانية ورئاسية مشهودة، تولى الرئيس عبد الرشيد علي شرماركي الرئاسة خلفاً للرئيس آذن عبد الله عثمان، وأبحرت سفينة الصومال صوب الدرب السالك حتى جاءت لحظة هوجاء عصفت بالنموذج الوليد، وذلك إثر اغتيال الرئيس عبد الرشيد شرماركي، وتبخَّر القاتل المأجور.. بعدها مباشرة سارعت القيادات العسكرية الصومالية إلى إعلان "الثورة" على النظام البرلماني الموروث من المستعمر! وشكلوا مجلساً للقيادة، وتوزع العسكريون المناصب، وكان من نصيب محمد سياد بري أن يتم اختياره رئيساً للمجلس الأعلى لقيادة الثورة، ثم رئيساً للبلاد، رغم أنه لم يكن من المخططين للانقلاب حسب بعض الإفادات، بل لأنه كان قائد الجيش والأكبر سناً في منظومة العسكريين القياديين.

ومنذ أن تولى "سياد بري" مقاليد الأمور، بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الصومال الحديث، وكان أميز ما ميز تلك المرحلة، أول إعدام سياسي مكشوف للقائد العسكري "صلاد جبيري" الذي ينتمي لقبائل "هويّة"، وتحديداً لفرع "أبقال" من تلك القبيلة التي طالما اعتُبرت في مكانة أدنى من السُلّم الاجتماعي، وفق المراتبية القبائلية، وعندها بدأت متوالية التمييز القبائلي بين قبائل "داروود"، وقبائل "هوية" الأقل شأناً، الأمر الذي انعكس مباشرة على السّلطة بوصفها مُلكاً وميزة.. لا مسؤولية وتجشم عناء العمل من أجل البناء والتطوير.

التحق الشماليون من سكان "هرغيسا، وبرعو، ولاس عانود" بالوحدة، منذ استقلال الصومال ومغادرة الاستعمارين البريطاني والإيطالي، وانخرطوا بحسن نية مع الجمهورية الوليدة بوصفهم صوماليين، بل إن فرقاء الساحة الوطنية الصومالية اعتبروا تحقيق استقلال الشطرين توطئة تاريخية لتكوين "صوماليا الكبرى"، الموزعة في عدة أقاليم جغرافية، وتحديداً جيبوتي وأوغادين في إثيوبيا، وشمال كينيا فيما عُرف بـnfd.

لكن هذه الآمال سرعان ما تبخَّرت مع انتعاشات الظفر والاستقلال الممنوح على طبق من فضة، وانصرف فرقاء الشمال والجنوب إلى تقاسم غنيمة التركة الاستعمارية، فيما احتار سكان الشمال في أمرهم، فقد وجدوا أنفسهم أمام معاناة.

أمّا الذين غادروا منهم إلى العاصمة مقديشيو، فقد شملتهم مباهج "المَنِّ والسلوى" للدولة المركزية الشمولية، التي ترافقت مع انقلاب العسكريين ضد النظام البرلماني. والذين ظلوا في مناطقهم، تُركوا لركود واقعهم الذي لم يتحرك كثيراً، ولم يعرفوا منافع الدولة والوحدة.

كان من الطبيعي والأمر كذلك أن يتململ الناس في الشمال، وهذا ما حصل عملياً، وجاء الرد الحكومي على التمرد واضحاً في خياراته، مفتوحاً على كل الاحتمالات، ومُعاضداً لمركزية القوة العسكرية الميدانية التي انبرت للتصدي، وتركت السياسي جانباً ليجد الرئيس "سياد بري" نفسه ومن معه من النخبة السياسية، أمام واقع حال تفرضه الآلة العسكرية وقيادات الجيش، الذين تركوا الأمور تتدهور في الشمال، وصولاً إلى شن عمل عسكري معلن ضد ما أسموه التمرد في هرغيسا وبرعو.

منذ أن تولى سياد بري السلطة إثر الانقلاب على الشرعية الدستورية البرلمانية، شرع في لملمة السلطات في يده، واستبعد إجرائياً كل من عارض نهجه ومنطقه، وتحول تباعاً إلى دكتاتور فولكلوري كتلك التي سادت بلدان أميركا اللاتينية وإفريقيا.

وتمتّع "سياد بري" بقدر كبير من الدهاء والمرونة، واستخدم أدوات الترغيب والترهيب بفعالية استثنائية، واستفاد من خبراته العسكرية القادمة من مدرسة "موسوليني" الإيطالية العتيدة، بل إنه كان "قومجياً" حتى مُخ العظم مثل معلمه الأول "موسوليني"، كما استفاد إلى حد كبير من معرفته الدقيقة بالخصوصية الاجتماعية الصومالية وتضاريسها المتنوعة. غير أن هذه الملكات والمهارات لم تشفع له، فقد تابع متوالية السقوط الحر منذ أول لحظة للاغتيال السياسي، وحتى الخروج المشين من العاصمة بمعيّة حفنة من حراسه.

خلال سنوات حكمه التي امتدت لعقدين من الزمن، رفع سياد بري شعارات متناقضة، فمن الاشتراكية العلمية إلى النزعة القومية المفرطة، وحتى التجريب البراغماتي غير المدروس.. تلك كانت الملامح العامة لحكمه، وما زاد الطين بلّة أنه خاض حرباً غير مدروسة مع إثيوبيا، إثر انهيار نظام الإمبراطور هيلاسلاسي.

وكان وجه الخطأ في الحسابات أن تلك الواقعة تمت في ذروة الحرب الباردة، ودقة التوازن بين الشرق والغرب. فقد كان السوفييت رافضين لمبدأ شن الحرب على إثيوبيا، غير أن سياد بري طرد الخبراء السوفييت، واعتقد أن ترسانة الصومال العسكرية الاستثنائية يمكنها أن تضمن له النجاح في مشروع استعادة "أوغادين" بوصفها جزءا من صوماليا الكبرى ذات الأقاليم الخمسة، والُمشار لها بالعلم الصومالي ذي النجمة الخماسية.

والحقيقة أن الصوماليين يقطنون فعلاً في تلك الأقاليم وهي: أوغادين، وجيبوتي، وnfd في كينيا، بالإضافة إلى الإقليمين الجنوبي والشمالي في "الجمهورية الصومالية"، لكن هذه الأقاليم الثلاثة توزعت وفق خارطة "سايكس بيكو"، بوصفها أقاليم داخلية في ثلاث دول هي: إثيوبيا وكينيا وجيبوتي، كما أن "التشظية القومية" لم تشمل الصوماليين فقط، بل قومية "العفر" الموزعة في ثلاث دول، هي جيبوتي وإثيوبيا وأريتريا.

وفي إثيوبيا ذاتها عدة قوميات، أبرزها الأرومو والأمهار والصوماليون والعفر والتيغرينيا وغيرهم، وسنجد ذات الأمر في السودان وأريتريا.

وبالتالي، وعطفاً على هذه الحقائق، كان من الحكمة النظر إلى وحدة الهوية الصومالية ضمن رؤية سياسية تصب في مجرى المطالبة بحق تقرير المصير، بدلاً من شن الحرب في أحوال إقليمية ودولية ما كانت تسمح بذلك.

والشاهد أن حرب "أوغادين" التي شنّها سياد بري، كانت بمثابة بداية القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد بدا ضعف النظام الصومالي بعد أن تدخل الاتحاد السوفييتي وكوبا بثقل لوجستي، أفضى إلى انسحاب القوات الصومالية من مدينة "هرر"، وبالاستتباع من كامل إقليم أوغادين...

 

Email