الحوار اليمني والوعد الصادق

ت + ت - الحجم الطبيعي

التحضير المتواتر، والتسارع الكبير في إيقاع الذهاب إلى مؤتمر الحوار الوطني في اليمن، يؤشر إلى انعطافة مؤكدة في العملية السياسية الجارية، وفق المبادرة الخليجية واستحقاقاتها الماثلة جبراً لا خياراً، فالحوار الوطني الشامل سيكون منبراً مفتوحاً لطرح كامل القضايا الإشكالية، والبحث عن مخارج عملية لسلسلة التحديات الماثلة أمام فرقاء الساحة اليمنية، من خلال التخلِّي الحُر عن ثقافة المكايدات السياسية.

والإصرار على الإقامة البليدة في شروط الماضي الكئيب، التي ثبت بُطلانها وقدرتها المُدمرة في عرقلة وتجميد التنمية الشاملة، وصولاً إلى اغتيال السِّلم الاجتماعي، وتعطيل القيم المادية والروحية، رغم السويَّة التي تتناسب مع إمكانيات البلاد، ووعودها السخيَّة بمستقبل تنموي مقبول.

من المؤكد أن الدرب نحو الحوار لن يكون سالكاً بنسبة مائة في المائة، لكن من المؤكد أيضاً أن غالبية العقول النيِّرة البناءة، تستشعر أن هذا الطريق هو الوحيد الذي يؤدي إلى الانعتاق والخروج من نفق الظلام والإظلام، وصولاً إلى تحقيق شروط ومقدمات بناء الدولة اليمنية الحديثة، وإطلاق العنان للمبادرات الخلاقة، وذلك عطفاً على نموذج الدولة الاتحادية القادمة، والمتناسبة مع الخصائص الجغرافية والتاريخية والمادية لأقاليم اليمن الافتراضية، في ظل حلم الدولة الاتحادية العصرية.

الحوار الوطني لن يقف عند تخوم الدستور الجديد الذي سيُشرعن للدولة الجديدة، بل سيقف أيضاً أمام سلسلة الاستحقاقات المتعلقة بالمظالم في الجنوب وصعدة، دونما اجترار لأخطاء وخطايا الماضي القريب، فالمُهم المُهم هو الوصول إلى الأهداف المرجوة، لا تبادل الاتهامات.

والشاهد أن المبادرة الخليجية نصَّت على الحصانة المترافقة مع قانون العدالة الانتقالية، ووضعت النقاط على الحروف حول آليات منح الحصانة للرئيس السابق علي عبد الله صالح ومن كان معه على درب التجربة المريرة، مقابل تحقيق العدالة الانتقالية وفق قانون ناجز وقابل للتطبيق.

المشرعون لقانون العدالة الانتقالية وضعوا بعين الاعتبار تسلسلاً زمنياً، يبدأ من جمعة الكرامة التي قتل فيها 53 شاباً، مروراً بحربي الجنوب وصعدة، ثم توالياً مع مرحلة ما بعد الوحدة في عام 1990، وبهذا المعنى شمل القانون المراحل الأساسية التي تميزت بالفوضى السافرة والاعتداءات الوافرة، بالترافق مع وضوح الرؤية لدى مشرعي القانون، حول جُملة التدابير المعلنة وغير المنفذة حتى الآن.

الآن وقد أزف الوقت للذهاب إلى الحوار الوطني، ستتم مباشرة تسوية الأمور العالقة في فترة زمنية قصيرة، لأن تلك الأمور تمثل كابحاً كبيراً للحوار، فالذين سينخرطون في الحل قبولاً وترجيحاً للخيار السلمي العاقل، لا يمكنهم إقناع من يمثلونهم طالما ظلت التدابير الإجرائية المتعلقة بتسوية المشاكل العالقة مُتعثرة.

والشاهد أن الجنوب بحاجة سريعة وعاجلة لإعادة المُسرَّحين من الخدمة خارج نطاق القانون، إلى وظائفهم المدنية والعسكرية، كما أن أراضي الدولة والقطاع العام ومخططات المواطنين السكنية المنهوبة، لا بد أن تعود على وجه السرعة، ليستشعر الجنوبيون أن هناك جديَّة في ردم هذه الهوة الخطيرة. وفي المقابل، لا مفر من الشروع في إعادة إعمار صعدة المُدمَّرة، بناءً على ما تم الاتفاق عليه غير مرة.

تلك الخطة ستمثل الوعد الصادق للذهاب إلى الحوار على قاعدة متينة، لكن هذا ليس نهاية المطاف، بل إنه لا بد من تحويل الخدمات الحيوية للمحافظات المختلفة إلى السلطات المحلية في تلك المحافظات، طالما كانت الدولة عاجزة عن إيقاف ومعاقبة مجرمي الاعتداءات على أبراج الكهرباء، وأنابيب التصدير للنفط، ومحطات توليد وتصدير الغاز، والطرق البرية، بالإضافة إلى مجرمي الخطف للأجانب، والذين يباشرون في ذات الوقت اعتداءات سافرة على القيادات العسكرية والمدنية في مختلف المحافظات.

يقول المثل العاقل: ما لا يُدرك كله لا يُترك جُلّه. وما يجري الآن يثبت أهمية الانتقال الفوري إلى شكل من أشكال اللامركزية الناظمة للحياة، والمُهيئة للحوار الوطني، والمُمهدة للدولة الاتحادية العصرية القادمة لا محالة، ذلك أن الجماهير لم تعد تثق بالوعود السخية، بل بثمار المتغيرات على الأرض، وتبدأ هذه المتغيرات بتأمين الحياة الكريمة للمواطنين.. وهو أمرٌ ممكن التحقيق فوراً وعاجلاً.

وعلى خط مُتصل، لا يعقل أن يصدر رئيس الدولة سلسة من القرارات المتعلقة بتطبيق المبادرة الخليجية، وخاصة قرارات إعادة هيكلة وتنظيم المؤسسات العسكرية والأمنية، ولا يتم تنفيذها حتى الآن، فالمرجعية الأساسية التي ارتضاها الجميع، تشير إلى أن تطبيق القرارات الرئاسية يصب في مجرى تطبيق المبادرة، وتعزيز المصالحة الوطنية، واحترام سيادة القانون.. ولهذا من المهم إظهار المصداقية في الدفاع عن هذه القرارات، من خلال تطبيقها الفوري، وعلى قاعدة الانصياع لما تم التراضي عليه طوعاً.

وفي ما يتعلق بالمؤشر الجديد والخطير حول شحنة الأسلحة الكبيرة القادمة من إيران، وما تلاها من ردود أفعال رسمية مشروعة، تنتصب أمام شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومة الوفاق، مسؤولية أشمل في مقارعة منابع السلاح، من خلال تجارها المعروفين بالاسم والرسم، ومنع انتشار السلاح في المدن الكبرى، كخطوة نحو إنهاء هذه الظاهرة الخطيرة، ذلك أن الاحتجاج على دخول أسلحة من الخارج، يفقد معناه طالما كانت مافيا تجارة السلاح تباشر ذات الدور التخريبي في طول وعرض الساحتين اليمنية والإقليمية، وطالما ظل البعض متمترساً بسلاح قادم من سوق السلاح السوداء، التي تدار من قبل مُتنفذين يتمنطقون أردية الدولة ويحملون نياشينها.

لم يعد في الوقت متسع للُّجاج والمزاجية، فالوقت يمضي متسارعاً، والإكراهات تتنامى يوماً بعد آخر، وصبر المواطنين اليمنيين ينفد يوماً بعد يوم، ووعود المستقبل القريب تتوارى خلف غلالات الحيرة.

لم تعد المعادلة اليمنية داخلية فحسب، على جوهرية وأهمية الداخل، ولكنها معادلة إقليمية ودولية بامتياز، ولهذا السبب يجدر بدول الإقليم العربي إعطاء دفعة قوية للشرعية اليمنية، وتأمين سبل تقْويتها معنوياً ومادياً، ذلك أن أي خلل أمني جوهري في الساحة اليمنية، سوف يجد امتداداته الطبيعية في دول الإقليم، وتلك واحدة من قوانين التاريخ والجغرافيا التي تتجاوز الحدود والأسوار.

ولهذا من المهم جداً أن تنصبَّ كل الجهود في اتجاه تعزيز الشرعية القائمة، طالما ارتضت المبادرة الخليجية طوعاً، وسارت قدماً نحو تطبيق مرئياتها، ولم تقف لحظة واحدة لـتأمين الغطاء المعنوي والأخلاقي لثقافة التسامح والتصالح، بدلاً من ثقافة التناحر والتقاتل.

 

Email