الحرب كالصدأ يصعب التخلص منها

ت + ت - الحجم الطبيعي

تبدو الحرب وكأنها تأتي من العدم، شأن الصدأ الذي يظهر فجأة على سطح الحديد بعد هبوب عاصفة. وعلى امتداد التاريخ رأينا أن الحرب يمكن أحيانا تجنبها أو تأجيلها أو التخفيف من تأثيراتها، وذلك عادة من خلال توازن القوى والتحالفات والردع، أكثر مما يمكن القيام بذلك عبر هيئات عابرة للأمة، ولكن لم يبد قط أنه يمكن للحرب أن تبتعد كلية.

والأمم والجماعات المختلفة، يمكنها أن تدفع نفسها دفعا إلى الحرب، ولنتأمل ما حدث في الأعوام 1861 و1914 و1939. وغالبا ما لا تكون الذرائع لبدء حرب ما، هي نقص حقيقي في الأرض أو الطعام أو الوقود، وإنما بالأحرى مفاهيم مثل الخوف والشرف والمصلحة الذاتية كما يجري تصورها.

بالنسبة للفيلسوفين الإغريقيين هيرقليدس وأفلاطون، فإن الحرب كانت الأب للجميع، بينما كان السلام منعطفا وجيزا في التجربة الإنسانية. وفي الماضي بدا الأميركيون المنتمون للحزبين كليهما، متقبلين لهذه الحقيقة المأساوية. بعد الحرب العالمية الثانية، اضطلعت الولايات المتحدة بدور حماية العالم الحر من الشيوعية العالمية، ودفعت في غمار ذلك ثمنا باهظا من الدماء والمال والتعرض غالبا لخطر وجودي، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ضمنت الإدارات الديمقراطية والجمهورية حرية التجارة والسفر والاتصالات الضرورية لازدهار العولمة.

وقد افترض من مثل هذا الحفاظ على السلام، أنه سيكون على الدوام هناك وجود لشخصيات مثل مانويل نورييغا وسلوبودان ميلوسوفيتش وصدام حسين وأسامة بن لادن، الذين سيهددون النظام الإقليمي أو الدولي. وفي معرض الرد، فإن الولايات المتحدة ستبادر غالبا بشكل مرتبك وبنتائج مختلطة وفي مواجهة انتقاد دولي، إما باحتواء هذا التهديد أو بالقضاء عليه. والأسماء تتغير، ولكن شر كل عصر يبقى. وكنتيجة ليقظة الولايات المتحدة فإن العالم ازدهر إلى حد كبير.

مثل هذه السياسة النشطة المستندة إلى الحزبين، تصل الآن إلى نهايتها مع سياسة "القيادة من الخلف" التي تتبعها إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما. وربما تعتقد أميركا الآن أن الأمم المتحدة لديها سجل أفضل في ما يتعلق بمنع الحرب أو وقفها، أو أن تاريخ الولايات المتحدة يشير إلى أن واشنطن غالبا ما سببت المشكلات أكثر مما حلتها، أو أنه مع الاحتياجات الاجتماعية الضاغطة، لم يعد في مقدورنا القيام بدور نشط في الخارج، في زمن الاقتراب من الإفلاس المالي. غير أن أسباب نزعة العزلة الجديدة إلينا الشبيهة بنظيرتها في 1940 أو 1939 لا تهمنا، وإنما المهم هو الواقع القائل بأن الكثير من العناصر السيئة، تعتقد الآن أن الولايات المتحدة لا يمكنها، أو لن تستطيع، الحيلولة دون تنفيذ أجنداتها، وأنه ما من أحد آخر سيقوم بذلك في غيابنا. والأميركيون محقون في سأمهم من حربي أفغانستان والعراق، غير أننا لم نترك قوة مراقبة في العراق، ونحن نفعل الشيء نفسه في أفغانستان. وهكذا فليست لدينا ضمانات بأن نضالنا الذي استمر عقدا من الزمن لتحقيق الحكم الإجماعي في مرحلة ما بعد الحرب، سيقدر له البقاء في زمن السلم.

لقد بدأ جانب كبير من إفريقيا في التحول إلى ما يشبه الصومال، وأسفرت الاستراتيجية التي اتبعناها في ليبيا عن الفوضى الخالصة، مع مصرع سفير أميركي وثلاثة من مساعديه في بنغازي. وقد حول الإخوان المسلمون مصر إلى ما يشبه الدولة الفاشلة، وقتل المتشددون العشرات من الغربيين بعد أخذهم رهائن في الجزائر، ويحاول الفرنسيون بمفردهم الحيلولة دون سيطرة المتشددين على مالي. وفي غضون ذلك، لقي 60 ألف شخص مصرعهم في سوريا، مع توقع سقوط الألوف في المستقبل.

ما هو القاسم المشترك؟ يتوقع المتشددون والدكتاتوريون في الشرق الأوسط، أن الولايات المتحدة سوف تتحدث كثيرا عن السلام ولا تفعل إلا القليل حيال الحرب.

تبدو الصين واليابان على وشك تبادل إطلاق النار حول جزر غير مهمة متنازع عليها، تبدو على الرغم من ذلك بالغة الأهمية من منظور المكانة الوطنية. وتشير حكومة أكثر تشددا في طوكيو وبحرية يابانية آخذة في النمو، إلى أن اليابانيين ينفد صبرهم حيال التنمر الصيني.

وتحظى اليابان والفلبين وكوريا الجنوبية وتايوان كلها، بالثروة والخبرة التي تتيح لها أن تصبح دولا نووية لكي تردع العدوان الصيني، ولكنها لم تفعل ذلك حتى الآن، لا لشيء إلا لاعتمادها على الولايات المتحدة ذات الحضور العسكري الشامل والقدرة على الاشتباك في السابق. وكوريا الشمالية القريبة من حافة المجاعة، عندما لا تكون في غمار تهديد كوريا الجنوبية، فإنها بين الحين والآخر توجه اختبارا صاروخيا إلى اليابان أو إلى الولايات المتحدة.

في السنوات الأربع الماضية، وفي ضوء شعورنا بالسأم من العراق وأفغانستان، وفي مواجهة ديون ساحقة، قمنا بتعهيد العمل الجماعي؛ الردع والحفاظ على السلام، للجامعة العربية، وللفرنسيين، والبريطانيين، ولقوات الأمن الأفغانية والعراقية، والأمم المتحدة.. فهل تعتقد أميركا الآن أن حلفاءنا الأضعف، والخطاب المهذب والإذعان والاعتذار بين الحين والآخر، والنوايا الحسنة أو الإهمال، سوف تنزع فتيل التوتر الذي يبدو أنه يفضي إلى صراع على امتداد العالم؟

ربما، ولكن ليس هناك دليل في أي من الطبيعة البشرية أو ماضينا المسجل، لتصديق مثل هذا التصور.

 

Email