حلم أوروبا الذي أصبح حقيقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل ما يقرب من عقد من الزمن، كان الأوروبيون والعديد من الأميركيين التقدميين، يتحسرون على حقيقة أن الولايات المتحدة كانت ستحرم من نموذج القرن الحادي والعشرين الذي رمز له الاتحاد الأوروبي القوي.

وكان الأميركيون البدائيون يستوردون كمية من النفط أكبر من أي وقت مضى، في الوقت الذي كانوا يشنون حربا مكلفة على الإرهاب، ويخوضون صراعين في العراق وأفغانستان، فوصل العجز في الميزانية الأميركية عام 2003 إلى 374 مليار دولار.

أما الاتحاد الأوروبي فقد تجنب الصراعات الخارجية وتبنى القوة الناعمة، وضمنت ميزانياته العسكرية المتضائلة وحكومته عبر الوطنية المركزية، تمكنه من معالجة ظاهرة الاحتباس الحراري وتمويل استحقاقات آخذة في التوسع. وحتى دول البحر المتوسط الأقل ثراء، بلغت آفاقا جديدة من الازدهار، حيث قفز الاقتصاد اليوناني عاليا، وأوشك السوق العقاري الإسباني على أن يصبح الأكثر جاذبية على مستوى العالم، وبدت إيطاليا أشبه بألمانيا من البرتغال.

ولم يكن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش مكروها في أوروبا فحسب، ولكنه صُور أيضا على نحو ساخر باعتباره رمزا لرأسمالية السوق الحرة الرجعية، وللنزعة الاستهلاكية الأميركية النتنة، وللإمبريالية الأميركية في الخارج. فقط بانتخاب باراك أوباما التقدمي رئيسا للولايات المتحدة، وجدت أوروبا أخيرا رئيسا أميركيا راقيا يفكر كما تفكر.

ومع ذلك فقد تبين أن ازدهار الاتحاد الأوروبي لم يكن إلا وهما، نُسج بحيل المحاسبة، والأموال الألمانية المقترضة، وموظفي الاتحاد الأوروبي الفاسدين. فلا يستطيع الاتحاد الأوروبي ككل، ولا معظم دوله، كل على حدة، المحافظة على المعدل الحالي من استحقاقات إعادة التوزيع. وإنهاء التحويلات النقدية عبر الحدود يعني انهيار الاتحاد، وتبني السياسات التقشفية في الداخل يضمن حالة من شبه الفوضى في شوارع كل دولة من دول الاتحاد.

وقد يكون الاتحاد الأوروبي قلقا بشأن أن الولايات المتحدة في عهد الرئيس أوباما، تزداد شبها به في الوقت الذي بدأ كثيرون في أوروبا يلقون نظرة أخرى أرق على نموذج السوق الحرة القديم، الذي كانت الولايات المتحدة تتبعه. فقد مثلت أميركا ذات الضرائب المنخفضة ومعدل البطالة المتدني والنمو القوي، في مرحلة من المراحل، سوقا هائلة للسلع الأوروبية، حين كانت تقود اقتصادا عالميا مزدهرا، وتملك ما يكفي من السيولة لحماية العالم الغربي.

وكل ذلك تغير بعد أربع سنوات من العجوزات غير المسبوقة في الميزانية الأميركية التي تزيد على تريليون دولار، إذ وصل الدين القومي الأميركي إلى 16 تريليون دولار، دون انعكاس يلوح في الأفق. ووقف معدل البطالة عند 7,8% أو أكثر لـ48 شهرا متتاليا، وثبت معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي عند ما لا يزيد على 2%، واعتمدت أعداد قياسية من الأميركيين على كوبونات البطالة والعجز والغذاء. وحصلت مفارقة أكبر في السياسة الخارجية، حيث انتقدت أوروبا حرب بوش على الإسلام وتدخلاته الخارجية غير الضرورية.

ولكن مع تسلم أوباما لزمام السلطة، حصلت أوروبا أخيرا على صورة طبق الأصل من نفسها. وستكون حربا العراق وأفغانستان قد انتهتا وفقا لجداول زمنية صارمة، من دون أي أمن دائم على الأرض. دخلت كل من فرنسا وبريطانيا العظمى إلى ليبيا، فيما قامت أميركا بـ"القيادة من الخلف". وحلت الفوضى محل دكتاتورية الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، مولدة ملاذا إرهابيا يهدد بأن يصبح أفغانستان جديدة. وتسلم زعيم جماعة الإخوان محمد مرسي رئاسة مصر شبه المفلسة، التي أصبحت تشبه هاييتي إلى حد كبير. وبعد الفوضى في ليبيا ومصر، وقف الغرب عاجزا فيما تحولت سوريا إلى شيء أشبه بمقديشو.

وأجبرت فرنسا على التدخل من جانب واحد في مستعمرتها القديمة، مالي، لوقف سيطرة المتشددين على البلاد بأسرها. وأميركا تتفرج من بعيد، فيما تتلقى القوات الفرنسية التي تعاني من نقص في عدد عناصرها، دعما لوجستيا ضئيلا من حلفائها في الاتحاد الأوروبي.

وفي الجزائر، أعدم المتشددون بوحشية عشرات الرهائن الغربيين. ومع ذلك فقد حظي أوباما بتأييد شعبي واسع النطاق لنزعته الانعزالية الجديدة، ويبدو أن الليبراليين يفضلون اقتراض المال في الداخل لدفع ثمن المزيد من الاستحقاقات، على إنفاقه على التدخلات الخارجية. ويستمتع العديد من المحافظين بالتفرج على أوروبا وهي تلعب (على نحو رديء)، الدور القديم أحادي الجانب الذي لا يحظى بالشكر، والذي كانت الولايات المتحدة تلعبه.

لقد وعد أوباما صراحة بمحور في الملف الأميركي الأمني تجاه منطقة المحيط الهادئ، ويجسد ذلك التغيير الحقيقة غير المعلنة، القائلة إن إعادة التوزيع الاشتراكي أفقدت أوروبا كامل أهميتها تقريبا، إذ يفترض أن اقتصادات السوق الحرة الآسيوية، يشكل الرابط الجديد بين الثروة والسلطة، فيما تقدم اكتشافات النفط والغاز في أميركا استقلالا غير متوقع في مجال الطاقة. وربما يعكس التركيز الاستراتيجي الجديد، الواقع الديمغرافي لائتلاف أوباما الذي يضم أقليات مختلفة.

وعددا أقل من الناخبين الأميركيين ذوي الأصول الأوروبية. وبالتأكيد، فإن الرئيس الذي ولد في هاواي وترعرع في إندونيسيا، يبدو أكثر اهتماما بآسيا منه بعالم البحر الأبيض المتوسط الاستعماري، الذي يحتضن الدول الأوروبية المتقدمة في السن والآخذة في التقلص، وبالمآزق العربية، وبالمكائد النفطية، وبالإرهابيين المتشددين، وبالقرحة المفتوحة بين إسرائيل والفلسطينيين.

وباختصار، فقد حصلت أوروبا على الاتحاد الأوروبي وأميركا المختلفة اللذين حلمت بهما، ولكنهما سرعان ما يتحولان إلى أسوأ كوابيسها.

 

Email