أسس مهمّة لبناء مجتمعات عربية حديثة

ت + ت - الحجم الطبيعي

من القضايا التي تشغل الآن الساحة الفكرية والسياسية العربية، مسألة العلاقة بين الدين والدولة. لكن هناك حاجة أولاً للتوافق المبدئي بين مختلف الاتجاهات الفكرية العربية، على ضرورة الفرز والتمييز بين الجماعات التي تعمل تحت لواء أيَّة نظرية فكرية.

فليس هناك مفهوم واحد لهذه النظريات، حتى داخل المعتقدين بها بشكل عام، ثم ليس هناك برنامج سياسي أو تطبيقي واحد، حتى بين الجماعات والحركات التي تتفق على مفهوم واحد.

 هذا الأمر ينطبق على الجماعات «العلمانية» و«الإسلامية»، كما على أتباع النظريات الشيوعية والرأسمالية، وعلى «المحافظين» و«الليبراليين» في العالم كلّه. كذلك صحّت هذه الخلاصة على التجارب القومية العربية، حيث غابت وحدة المفاهيم الفكرية والحركية عن هذه التجارب.

إن فصل الدين عن المجتمع لم يحصل في أيّ أمَّة إلا بفعل القوة (مثال نموذج تجارب الأنظمة الشيوعية سابقاً). أما «فصل الدين عن الدولة» في تجارب الأنظمة الغربية فكان نسبياً، حيث هو في فرنسا فصل كامل حتى في السلوك السياسي والشخصي للحاكمين، وهو في أميركا فصل فقط بالممارسة الدستورية..

ويختلف في بريطانيا عن النموذجين الفرنسي والأميركي، حيث الملكة (أو الملك) هو رئيس الكنيسة أيضاً.. وهناك في إيطاليا، وفي بعض دول أوروبا الأخرى، أحزاب سياسية قائمة على أساس ديني (الحزب الديمقراطي المسيحي)، رغم اعتماد النظام العلماني في الحكم.

أمّا في يوغسلافيا فلم ينجح الحكم العلماني الشيوعي (لأكثر من نصف قرن)، في إزالة العصبيات الدينية حتّى بين الكاثوليك والأرثوذوكس!

إن معالجة مشاكل ظاهرة التطرف الديني ليست بالابتعاد عن الدين، بدلالة ظهور حركات دينية متطرفة في أميركا وأوروبا، رغم وجود الأنظمة العلمانية.

فالعلمانية، رغم أهميتها الدستورية في العالم المعاصر، ليست وحدها الحل لكل مشاكل المجتمع العربي! ولقد شهد بعض البلاد العربية والإسلامية تجارب لأنظمة حكم علمانية، لكن بمعزل عن الديمقراطية السياسية في الحكم، والعدالة في المجتمع، فلم تفلح هذه التجارب في حلّ مشاكل دولها.

وهذه التجارب لم تحلّ مشكلة غياب الديمقراطية، ولا مشكلة الأقليات، ولا المشاكل الاقتصادية، ولم تحلّ مشكلة الحكم المفروض ضد الإرادة الشعبية، ولم تحقّق التقدّم والعدالة الاجتماعية لشعوب هذه الدول.

إن المجتمع العربي بحاجة، أولاً، إلى إصلاحات فكرية وثقافية ودستورية واقتصادية واجتماعية.. وهذه الإصلاحات لا تتناقض مع القيم الدينية، ولا تتعارض مع المفاهيم الإنسانية المعاصرة، وفي ذلك مسؤولية مشتركة لقوى «علمانية» و«إسلامية»، تختلف فكرياً لكنّها قد تشترك في برنامج نهضوي جديد تحتاجه الأمَّة العربية كلّها.

إن الإسلام، حسب اجتهادي، هو «دين وضوابط مجتمع»، ولا يجب الفصل بين الدين والمجتمع، لكن يتوجّب الفصل بين الدين ومؤسسات الدولة، إذ المعروف أنَّ أساليب الحكم ومفاهيم الدولة قد اختلفت إسلامياً من حقبةٍ لأخرى، حتى في سياقها التاريخي منذ بدء الدعوة ثم في فترة الخلفاء الراشدين، ثمّ ما جرى بعد ذلك من حكم عائلي متوارث تحت ادعاء «الخلافة الإسلامية»، وصراعات بين حقبة وأخرى، واختلاف في المفاهيم وصيغ الحكم ومرجعياته.

إنّ الأهم في هذه المرحلة هو طرح «العقلانية الدينية» في المجال الفكري والثقافي، والانطلاق من العقل لفهم النصوص، واعتماد المرجعية الشعبية في الوصول للحكم وفي أعمال المؤسسات التشريعية المنتخبة، وإلغاء الطائفية السياسية في بعض أنظمة الحكم، وتحقيق المساواة الكاملة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، من أجل تثبيت مفهوم «المواطنة» كبديل للمفاهيم الانقسامية السائدة الآن.

إنّ المجتمعات الديمقراطية المعاصرة قد توصّلت إلى خلاصات مهمّة يمكن الأخذ بها في أيّ مكان، وأبرز هذه الخلاصات هي التقنين الدستوري السليم لتركيبة المجتمع، ممّا يصون حقوق «الأكثرية» والأقلّيات معاً، رغم مبدأ خضوع الجميع لما تختاره أكثرية الناخبين، حينما تكون هناك انتخابات عامَّة في البلاد.

هذه أسس مهمّة لبناء المجتمعات الحديثة، ولتوفير المناخ المناسب لوحدة الأوطان وتقدّمها السياسي والاجتماعي، ولمنع الاهتراء في أنظمتها وقوانينها، كما هي عامل مهم أيضاً في منع تحوّل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى براكين نار تحرق نفسها ومن حولها.

ومن غير توفّر مقومات نظام سياسي ديمقراطي، فإنّ أيَّ ضغط عنفي لتغييرٍ ما في المجتمع، قد يتحوّل إلى أداة تفجير اجتماعي وأمني يصعب التحكّم في نتائجه، وقد يؤدي إلى حروب أهلية.

أيضاً، مسألة أخرى تفرض نفسها في المجتمعات العربية المعاصرة، وهي قضية «الهوية» بجانبيها الديني والقومي، فإذا كان بعض «الحركات الإسلامية» قد طرح نفسه بديلاً لأفكار وتجارب «حركات قومية عربية»، فهل يمكن أصلاً اعتبار «الهوية الإسلامية» بديلاً أو نقيضاً لهوية العروبة؟

هذا التساؤل ليس جديداً على منصّة الأفكار العربية، فهو موضوع لا يقلّ عمره عن مائة سنة، أي منذ مطلع القرن العشرين الماضي، حيث دار التساؤل في المنطقة العربية تحديداً حول ماهيّة هويّة هذه المنطقة، وهي المرحلة التي بدأ فيها فرز العالم الإسلامي إلى دول وكيانات بعد انتهاء الحقبة العثمانية.

لكن ما حدث خلال القرن العشرين، أثبت عدم إمكان الفصل في المنطقة العربية بين العروبة الثقافية والإسلام الحضاري.

فالعروبة الثقافية والإسلام الحضاري في المنطقة العربية، حالة متلازمة مترابطة ومختلفة عن كل علاقة بين الدين كإسلام والقوميات الأخرى في العالم الإسلامي.

لكن رغم خصوصية العلاقة بين العروبة الثقافية والإسلام الحضاري، فإنّ هذا الموضوع الشائك لم يحسم خلال القرن العشرين، وما زال هو الأساس لنهضة هذه المنطقة في القرن الحالي الجديد. ما سبق ذكره ليس أسساً مهمّة لبناء مجتمعات عربية حديثة فقط، بل إنه أيضاً يضع أمام الأجيال العربية الجديدة مفاهيم فكرية سليمة، تستطيع من خلالها أن تعمل لبناء مستقبل عربي أفضل، فلا تكرر خطايا وثغرات تجارب الأجيال السابقة.. وعسى أن يحدث ذلك قريباً لصالح حاضر الأوطان ومستقبلها معاً.

 

Email