تخبّط في الأولويات وازدواجية المعايير الأميركية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أشعر بالذهول أمام الضجّة التي أثارتها المؤسّسة السياسية في واشنطن والإعلام الأميركي، بسبب التصرّفات الطائشة لجنرالَين بأربع نجوم تراجع بريقهما منذ فترة.

فقد اضطُرّ الجنرال ديفيد بترايوس إلى الاستقالة على خلفية علاقته المشبوهة مع كاتبة سيرته، بولا برودويل، في حين لم يُعامل بالقساوة نفسها الجنرال جون آلن، قائد قوات الناتو في أفغانستان، الذي بعث رسائل بالبريد الإلكتروني تتضمّن إيحاءات غزَلية إلى جيل كيلي من فلوريدا، اشتبهت برودويل في أنها تسعى إلى استمالة "رجلها".

وقد عُلّق تعيين آلن قائدا لقوات حلف شمال الأطلسي الناتو في أوروبا الآن. ربما كنّا أمام فضيحة من النوع الذي يتتبّعه محبّو برامج الواقع بشغف، لكنها عديمة الأهمّية في المخطّط الكبير للأمور.

إنه لأمر غريب فعلاً أن يسلّط البيت الأبيض والبنتاغون الضوء بهذه الطريقة على مسائل شخصية، ويحوّلانها إلى قضيّة وطنية تتصدّر العناوين. كان يجب أن تُطوى المسألة ما إن قام الإعلام بتسريبها، مع الاكتفاء بعبارة "لا تعليق".

في المقابل، بالكاد يؤتى على ذكر الأخبار المهمّة في الصفحة الأولى، والسبب الأساسي هو أنّ الأميركيين لا يبالون بمعرفة ما ارتكبه جيشهم في أفغانستان والعراق باسمهم. من يتكبّد عناء النظر خلف البروباغندا؟

من يكترث بأنه لا يمرّ أسبوع واحد من دون أن تنفجر سيارات مفخّخة في المدن العراقية؟ مَن مِن الأميركيين يبالي فعلاً بأن الآلاف من جنودهم ضحّوا بحياتهم تحت شعار الديمقراطية ليُقذَف بالعراق في نهاية المطاف، في أحضان إيران، العدو اللدود لأميركا؟ لماذا لا يعمّ الغضب الولايات المتحدة بسبب سقوط أكثر من مليون قتيل عراقي، وهدر ما يزيد عن تريليون دولار من أموال دافعي الضرائب من الأميركيين للتخلّص من ديكتاتور لا حيلة ولا قوّة له، عبر توسّل الأكاذيب والأضاليل؟

وفي أفغانستان أيضاً، واهِمٌ من يُصدّق أن الأميركيين وحلفاءهم حقّقوا شيئاً إيجابياً. كان الهدف المعلَن لذهابهم إلى هناك القبض على أسامة بن لادن، ثم تبيّن أنه قد فرّ مبكرا إلى باكستان.

صحيح أنهم دمّروا معسكرات التدريب التابعة لتنظيم "القاعدة" في البلاد، لكن القاعدة لا تزال موجودة وناشطة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشبه القارّة الهندية وإفريقيا؛ وينشط مقاتِلو القاعدة بشكل خاص في شبه جزيرة سيناء واليمن.

ومن سخرية القدر أن الحكومتين الأفغانية والباكستانية تتودّدان الآن إلى حركة "طالبان"، التي تشنّ الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) حرباً ضدّها منذ أحد عشر عاماً بهدف القضاء عليها.

قبل بضعة أيام، أفرجت باكستان عن ثمانية من قادة حركة "طالبان" كانوا محتجَزين لديها، وبينهم قيادي كان مقرّباً من أسامة بن لادن، وتمّت عملية الإفراج بناءً على طلب من الحكومة الأفغانية التي تسعى إلى المصالحة مع الحركة.

بحسب الصحف الباكستانية، تشعر حركة "طالبان" بسعادة كبيرة، بعد العار الذي لحق ببترايوس الذي كان مهندس زيادة عدد القوات الأميركية في أفغانستان.

ولا شك أنهم ينتظرون بترقّب شديد العام 2014، وهو الموعد المقرّر لرحيل الجنود الأميركيين من البلاد؛ فهم يتحيّنون تلك الفرصة للعودة بالأوضاع إلى سابق عهدها.

إذا كان الأميركيون يتوقّعون الامتنان من الأفغان، فسوف يُصابون بخيبة الأمل.

أحد الأسباب وراء تفشّي العداء لأميركا، هو الهجمات العشوائية بالطائرات من دون طيار، التي أدّت إلى تدمير قرى بكاملها.

ألا ترون خللاً خطيراً في الأولويات الأميركية؟ لقد عوقِب الجنرال بترايوس بقسوة بسبب حياته العاطفية، في حين أن الجنود الأميركيين الذين مارسوا التعذيب بحقّ المعتقلين في باغرام وأبو غريب وغوانتانامو، وُصِفوا بأنهم مجرّد "فئة قليلة ضالة" واقتصر الأمر على توبيخهم أو خفض رتبهم العسكرية أو سجنهم لفترة وجيزة.

هؤلاء الجنود وقادتهم هم بالفعل من لطّخوا سمعة أميركا، وليس بترايوس أو آلن اللذين تصرّفا بحماقة وحسب.

فضلاً عن ذلك، لو ارتكب أيّ بلد عربي النزر اليسير مما فعلته الولايات المتحدة، من خطفٍ للأشخاص من شوارع العواصم الأوروبية لتسليمهم إلى بلدان ثالثة حيث يتعرّضون للتعذيب، أو سجنٍ للمواطنين الغربيين في معسكرات الاعتقال لسنوات من دون توجيه تهم إليهم أو محاكمتهم، لنُعِت هذا البلد العربي بأنه بلد إرهابي؛ وكان ليُعاقَب، ويُقصَف، وربما يتعرّض للاجتياح.

كيف للأمريكيين أن يستغربوا أنّ بلادهم فقدت الكثير من احترامها لدى العالمَين العربي والإسلامي! لديّ العشرات من الأصدقاء الأميركيين الشرفاء والرائعين الذين هم من خيرة الأشخاص، وكنت أتطلّع بإعجاب إلى "أرض الحرية والشجاعة" وأرى فيها البلد الأكثر ثراء ونفوذاً على وجه الأرض؛ كنت أجدها مستودع ديناميكيا للمعارف والعلوم والابتكار، ومعقلاً حصينا لحقوق الإنسان.

أتفادى عادةً الأحكام النمطية، لكن الأميركيين، بحسب تجربتي، هم من الشعوب الأكثر لطفاً وودّاً.

كنت أعتبر أنّ من حقّهم أن يعتزّوا بإنجازاتهم، فهم لديهم الكثير ليفتخروا به، لكن عليهم أن يخجلوا في الوقت نفسه من السياسة الخارجية الاستقوائية التي تنتهجها حكوماتهم، والتي تنظر إلى غير الأمريكيين بأنهم أدنى مرتبةً، وتتعامل مع قادة البلدان الأخرى وكأنّهم بيادق يمكن التحكّم بها في لعبة الهيمنة العالمية.

كيف يغمض لهم جفن ليلاً في حين أن عدداً كبيراً جداً من إخوتهم في الوطن يعيشون في مدن الصفائح، في منازل مصنوعة من الكرتون، وينامون مع أولادهم في السيارات، ويعتمدون على الإعانات الغذائية أو يُضطرّون إلى رهن منازلهم للحصول على العلاج الطبّي؟ تعيش في أميركا طبقة دنيا من الأشخاص الذين يتخبّطون في حالة مزرية جداً، وهذا ما كشفه إعصار كاترينا ومن ثم إعصار ساندي. الحلم الأمريكي بعيد المنال بالنسبة إليهم.

أعلم أن الأميركيين والأوروبيين ينظرون باستعلاء إلينا نحن العرب، فهم يسبقوننا فعلاً وبسنوات ضوئية في مجالات كثيرة. بيد أن خيرة عقولهم لم تنجح حتى في مكافحة الأزمات الاقتصادية أو معدّلات البطالة المرتفعة جداً، مما يتسبّب في اضطرابات مدنية عنيفة.

نحن المحظوظون بالعيش في دول مجلس التعاون الخليجي، لا ندّعي أننا نعرف أكثر من نظرائنا الغربيين، بل على العكس تماماً؛ يتعلّم أولادنا في مدارسهم، ويقصد مرضانا مستشفياتهم. لقد استفدنا من تجاربهم ومهاراتهم واستخدمناها لتعزيز اقتصاداتنا.

من اللافت أن دول مجلس التعاون الخليجي تعافت من التباطؤ العالمي بوتيرة أسرع بكثير من بقيّة البلدان. وحدتنا هي التي تصنع الفارق بيننا وبينهم، كما أنّنا ننأى بأنفسنا دائماً عن كل ما يُهدّد أمننا واستقرارنا وازدهارنا. لا نسمح للشركات أو الأفراد بالتأثير سلباً على بلداننا، على النقيض مما هو شائع في الغرب.

لن يسمح قادتنا لمثيري الشغب المصمّمين على إغراق دول مجلس التعاون الخليجي في دوّامة الاضطرابات، بتحقيق مآربهم. وهذا ما يتسبّب لهم في انتقادات خاطئة وغير محقّة ،من جانب جماعات حقوق الإنسان.

أحمد الله أن قادتنا يصونون الوضع القائم، ويعطون الأولوية لسلامة مواطنيهم ورفاههم، فيؤمّنون لهم المسكن والتعليم والعلاج الطبّي. رعاية المحتاجين ومن هم أقلّ حظوة في الداخل والخارج لم نتعلّمها من الغرب، بل إنها قيمة أساسية من قيم الإسلام.

أقول لمن ينتقدوننا ويدّعون أننا نتجاهل حقوق الإنسان، في حين أن شعبنا يتمتّع بنمط حياة يُحسَد عليه ومعدل دخل فردي مرتفع؛ انظروا جيداً إلى بلدانكم حيث السجون مكتظّة، ويزرع مدمنو المخدّرات والمجرمون الخوف وعدم الأمان في الشوارع، ويقف الناس في صفوف طويلة للاستفادة من الإعانات والمساعدات.

لماذا لا تزورون مدن الصفائح في بلدانكم ثم تتحدّثون عن حقوق الإنسان؟ أو تجرّأوا واذهبوا إلى أفغانستان أو العراق واسألوا الناس هناك، من ملايين الأرامل واليتامى ومبتوري الأعضاء، عن حقوق الإنسان.

إذا لم تقرّ الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون بأخطائهم، فسوف يخسرون للأسف ما تبقّى لهم من تقدير عندنا. وقضيّة بترايوس السخيفة التي تُضخَّم وتُعطى أكثر من حجمها الطبيعي، تدقّ مسماراً إضافياً في ذلك النعش.

Email