الشيخ محمد.. خير خلف لخير سلف

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يخفى على أحد، إعجابي الكبير بالإنجازات العظيمة للمغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، الذي كان نائباً لرئيس دولة الإمارات، ورئيساً لوزرائها، وحاكماً لدبي. ولقد كانت حماسته وتصميمه لكي يضع بلده على الخريطة العالمية كبيرين جداً، ولا حدود لهما، بقدر حبّه لشعبه. ويُشهَد له بتبصّره وحكمته في اتّخاذ القرارات، واستعداده للإصغاء إلى آراء الآخرين، سواء كانوا من عائلات نافذة تعمل في تجارة اللؤلؤ، أم مجرّد مواطنين عاديين، وقد كنت من المحظوظين القلائل الذين عرفوه مرشداً وصديقاً. كنت أزوره في مجلسه بصورة شبه يومية، لمناقشة المستجدّات اليومية، والتي كان يواكبها لحظةً بلحظة، حتى في آخر مرحلة من حياته، عندما لم يعد بإمكانه التنقّل، وكان يتلهّف للاطّلاع على الأنباء، والاطمئنان إلى أن كل شيء على ما يرام في البلاد.

عندما رحل الشيخ راشد في السابع من أكتوبر 1990، شعرت أن عالمي بأسره قد تزعزع، وبكيته كما بكيت والدي العزيز. افتقدتُ حضوره، لكنّني شعرت أيضاً بشيء من العزاء، لأنه ارتاح من المرض ومعاناته، إلا أنني كنت قلقاً جداً على مصير دبي بعد رحيله، وكنت أشعر أنه ليس هناك من يستطيع أن يملأ الفراغ الذي تركه هذا القائد الفذ.
لكن تبيّن أنني كنت على خطأ، فالشيخ راشد ظل حياً ينبض في أبنائه الذين وهب الله كلاً منهم قدرات ومزايا مختلفة، لكنهم ظلّوا جميعاً أوفياء للمسار الذي خطّه والدهم، والذي يضمن الأمن والسلام والازدهار لكل المواطنين في دولة الإمارات، حيث ازدهرت ريادة الأعمال، ولم يبقَ مشرّد أو جائع، وبات الجميع يتمتّعون بوسائل الراحة، والفرص التي يعتبرها معظمنا الآن من المسلّمات.

في هذا الزمن، حيث تتخبّط شعوب كثيرة في منطقتنا في لجّة الاضطرابات، وانعدام الأمن في مواجهة مستقبل مجهول، أودّ أن ألفت انتباه إخواني في الوطن إلى أننا محظوظون جداً، لأن بلادنا هي في عهدة قادة مثل صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد، رئيس دولة الإمارات وحاكم أبو ظبي، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، نائب رئيس الدولة رئيس الوزراء حاكم دبي. إنهم يمثّلون منفردين ومجتمعين الاستقرار والاستمرارية، اللذين تفتقر إليهما، ليس فقط معظم البلدان المجاورة، وإنما أيضاً الديمقراطيات الغربية، حيث توضَع السياسات الكبرى على الرف كلما حملت الانتخابات تغييراً حكومياً، فيُضطرّ صانعو السياسات للعودة إلى نقطة الصفر، وإعداد سياسات جديدة.

لقد ولدتُ ونشأت في دبي، ولذلك أحمد الله، لأنه أنعم علينا بشخصية فذة مثل الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. كنت معجباً بقوّة شخصيته في شبابنا، لكنه بالفعل فاق جميع توقعاتي، لما يتمتع به من الصفات والخصال الحميدة. فعلى غرار والده، يتحلّى ببعد النظر، وروح الابتكار، والاجتهاد في العمل، والسخاء، والتعاطف مع الآخرين، والتسامي في القيم والأخلاق. ارتقى بدبي إلى مصافٍ عالية جداً، لم يكن المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم ليتخيّلها، حتى في أحلامه. وأكثر من ذلك، يحظى على صعيد شخصي بالاحترام في مختلف أنحاء العالم، لنشاطاته الرياضية، وقصائده النبطية الوجدانية، وحبّه لعمل الخير والإحسان. وقد أنشأ مؤسّسة محمد بن راشد آل مكتوم لتحسين وتطوير المعرفة في مختلف أرجاء الوطن العربي، كما أطلق حملة «دبي العطاء»، التي هدفت إلى تعليم مليون طفل من العائلات الفقيرة، ومنحت مؤسّسة «نور دبي» نعمة البصر لمليون شخص مصابين بإعاقات بصرية في البلدان النامية.

يلتزم الشيخ محمد بمعايير عالية، ويمكن أن يكون صارماً مع من لا يتقيّدون بها، ولذلك، يرى فيه الإماراتيون مصدر أمان لهم. ومن أعظم خصاله، الاهتمام الشديد الذي يوليه للآخرين، وعطفه تجاههم، وهذا ما يشهد به كل من يعرفونه، فهو لا يسخى بماله وحسب، إنما أيضاً بوقته.

وقد حصلت على دعم كبير منه عندما زار مؤخراً مكاتب مجموعة الحبتور في الجميرا، برفقة نجله سمو الشيخ مكتوم بن محمد نائب حاكم دبي. فقد قلت له كم أن زيارته هي شرف كبير لنا، وتمنحنا جرعة زخم إيجابية في المساعي التي نبذلها. وقد أبدى اهتماماً كبيراً بالخطط والمشاريع التي تعمل شركاتي على تنفيذها، ولا سيما في قطاع الضيافة، والتي تسعى إلى تلبية الحاجات المتزايدة لزوّار الإمارات وسكّانها.
وسُرِرت كثيراً باطلاعه على سير أعمال الإنشاء في الفنادق الثلاثة، سانت رجيس، وفندق دبليو، وفندق وستن، التي نقوم ببنائها، والتي ستشكّل، بالإضافة إلى مسرح مصمّم على طريقة مسارح لاس فيغاس، أوّل منتجع متكامل في دبي، فضلاً عن مشروع بناء أول منتجع فخم تابع لسلسة والدورف أستوريا في نخلة الجميرا. ولم يسعني سوى العودة بالذاكرة إلى الأيام الغابرة، حيث كنت أرافق الشيخ راشد في جولات على مواقع البناء، عندما كان فندق «إنتركونتيننتال» في الخور، فندق الخمس نجوم الوحيد في دبي. والشيخ محمد رجل رؤيوي وبعيد النظر، يتطلّع إلى الأمام، تماماً مثل والده، فهو لا ينام أبداً على أمجاده. وينهض بجدّية مطلقة بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، كحامٍ لمستقبل أولادنا.

هل من مكان آخر في العالم يكلّف فيه الحاكم أو رئيس الوزراء أو الرئيس نفسه، عناء زيارة شركة ما لإظهار دعمه لها، كما فعل الشيخ محمد بزيارته لمكاتبنا؟ ما عدد القادة في العالم الذين يتمتّعون باللمسة الشخصية، والموهبة لدراسة مشاريع القطاع الخاص، وإبداء آرائهم فيها، وإعطاء التعليمات للجهات المختصّة كي تؤمّن التسهيلات اللازمة للأعمال والمشاريع التي تسهم في تعزيز المدينة وتطويرها؟ هل يزور رؤساء الدول في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو أوروبا، الشركات الخاصة للتباحث في مشاريعها وإسداء النصائح حول خططها؟ لا يحصل هذا في العالم الأول، ولا في العالم العربي... لا يحصل في أي مكان، ما عدا الإمارات العربية المتحدة.

الشيخ محمد هو نموذج يُحتذى لقادة العالم الذين يفشلون في التفاعل مع الناس العاديين ومجتمع الأعمال. شعب الإمارات عائلة واحدة، ودم واحد، ومجموعة واحدة. نحن مختلفون عن الشعوب الأخرى في طريقة تفكيرنا. نتحدّر جميعنا من الأصول نفسها، والخلفية نفسها، ونفهم بعضنا بعضاً. ليتنا ندرك كم نحن محظوظون!.

أتمنى أن تستمرّ العلاقة الوثيقة بين الحاكم والشعب لأجيال وأجيال. هذه المنظومة السياسية ناجحة وملائمة لنا، والجميع تقريباً يريدونها أن تدوم. نريد أن نواصل العيش بانسجام كإخوة وأخوات. نريد أن نحافظ على حرية التعبير عن آرائنا على مسمع قادتنا، ونحن ندرك تماماً أنها ستلقى آذاناً مصغية. وكونوا على يقين بأننا سندافع بكل ما أوتينا من قوّة عن الوضع القائم، لحمايته من القلّة الجاحدة التي تريد زعزعة الاستقرار.

 

 

Email