إلى كل من يتغنى بعروبة القدس

ت + ت - الحجم الطبيعي

شكّلت الهجمة الفاشية الأخيرة من قبل قطعان المستوطنين الصهاينة، على باحات المسجد الأقصى المبارك، خطوة تصعيدية ثانية في أقل من شهر، بعد سلسلة من التحضيرات، ومن التحشيد المدعوم حكومياً، وعلى المستويات الإسرائيلية العليا، لاستباحة المسجد وحرم المسجد، وإقامة الطقوس اليهودية، في تَحدٍ سافر، ليس للشعب العربي الفلسطيني فقط، بل لعموم العرب والمسلمين.

فقد خرج أحد هؤلاء المستوطنين من باحات المسجد الأقصى، ليصرخ بملء فمه قائلاً «ها قد خرجنا منه راقصين بعد أن أدينا طقوسنا التلمودية، واقتحمناه رغماً عن أنوفكم.. فماذا أنتم فاعلون؟».

ومن الملاحظ أن استهداف المدينة وأقصاها، جاء هذه المرة في ذكرى تحريرها واستردادها من المغول، في الثاني من أكتوبر من عام 1187، على يد الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي.

ومن المؤسف، أن ما جرى ويجري تجاه مدينة القدس والأقصى، ما زال بعيداً عن الاهتمام الجدي والملحوظ عربياً وإسلامياً، اللهم إلا نقل الخبر إعلامياً، كأي خبر عادي، وإصدار مواقف الشجب والاستنكار، دون أي فعل ملموس، فيما تواصل سلطات الاحتلال عملها الملموس وعلى الأرض، عبر توسيع وتشجيع عمليات التهويد والاستيطان التي أكلت الأخضر واليابس داخل المدينة، وعلى حدودها الإدارية مع قرى وبلدات عموم الضفة الغربية.

قضية القدس تتسارع، والدولة العبرية الصهيونية تسابق الوقت لإنجاز مشاريعها وتصوراتها الموضوعة، بالنسبة للمدينة المقدسة، وحتى بالنسبة للمسجد الأقصى، فأعمال الحفريات والهدم والبناء لم تتوقف لحظة واحدة، على الرغم من أطنان الخطابات الورقية العربية والعالمية، ورغم نداءات المجتمع الدولي، بما في ذلك نداءات منظمة اليونيسكو، التي وجهت أكثر من نداء بخصوص المناطق والمواقع التاريخية العربية الإسلامية والمسيحية الواقعة داخل المدينة، وعلى أطرافها.

وقبل أيام خلت، كانت إحدى طائرات الاحتلال العمودية تطير فوق المسجد الأقصى، إلى حدود كادت أن تلامس قبة الصخرة، وبعض أعمدة المسجد، في استعراض عسكري، وتَحدٍ لمشاعر الناس من أبناء المدينة، ومن عموم المواطنين الفلسطينيين، وفي رسالة إسرائيلية للجميع، بما في ذلك للنظام الرسمي العربي وعموم المسلمين، بشأن القدس، وبشأن الموقف الإسرائيلي المعروف إزاء المدينة المقدسة.

لقد كاد الجميع أن يسقط في امتحان الدفاع عن المدينة المقدسة، وعن أوابدها، عدا أبناء المدينة أنفسهم، الذين على الرغم من ضعف الحيلة، ورغم فقدان أسانيد الدعم والإسناد الحقيقية والمطلوبة، إلا أنهم ما زالوا صامدين في معركة الدفاع عن عروبة المدينة، وعن قدسيتها عند عموم المسلمين والمسيحيين في أرجاء المعمورة بأسرها.

القدس تطلق صرختها في ظل «همود وخمود» طال واستطال في المواقف العربية والإسلامية الرسمية، إزاء ما يجري حالياً من حملات تهويد غير مسبوقة للمدينة المقدسة، وفي لحظات حاسمة، يتعالى فيها ضجيج بلدوزرات الهدم والتهويد الإسرائيلية الصهيونية، وأصوات «بساطير» (أحذية) جنود الاحتلال في شوارعها وأزقتها، وحتى داخل باحات المسجد الأقصى وحرمه، في وقت ما زالت فيه المواقف الأميركية تُشكّل الغطاء الأساسي والرئيس لسياسات الاحتلال بالنسبة للمدينة المقدسة.

فالموقف الأميركي كان، وما زال، مضموناً للدولة العبرية الصهيونية، يَقيها ويحميها من القانون الدولي، ويجعل منها دولة فوق القانون، تمارس ما تشاء من سياسات وأفعال، دون مساءلة ودون توقف من قبل المجموعات والمؤسسات الدولية الكبرى، بما في ذلك الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. فإسرائيل ليست دولة سوبرمان، بل هي كيان مُسلح بالموقف والغطاء الأميركي أولاً، والموقف الغربي ثانياً..

وللأسف، بالتهاون والصمت العربي ثالثاً. إن الأقصى والقدس وأبناءها الصامدين داخلها، يطالبون الجميع في عالمنا العربي والإسلامي، وكل أحرار العالم وقوى الديمقراطية والسلام، بالدعم السياسي المنشود، الذي يجب أن يتوازى ويترافق مع الدعم المادي المطلوب.

فالدعم السياسي ضرورة لتشكيل مظلة الحماية للشعب الفلسطيني، كما يفترض أن يسير في اتجاه وقف الانحدار في العملية السياسية في الشرق الأوسط، تحت إدارة واشنطن، التي ما زالت تتخذ مواقف منحازة وبعيدة عن منطق التوازن في النظر لقضايا التسوية، بما في ذلك بالنسبة لمصير المدينة المقدسة.

حيث تتبنى الولايات المتحدة، في واقع الحال، الرؤية الأقرب للموقف الإسرائيلي، في متوالية سياسية سارت عليها الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ ما بعد حرب يونيو 1967، وقد تبدت الآن أكثر فأكثر، في ظل الوضع المعقد الذي تعيشه المدينة المقدسة وأبناؤها من المواطنين الفلسطينيين.

وحتى يصبح الموقف العربي والإسلامي على مستوى التحدي، ولو بحدوده الدنيا، وحتى نرد الاعتبار لمأساة القدس ونكبة مقدساتها الإسلامية والمسيحية، وفي مقدمها نكبة المسجد الأقصى المبارك، فإن الفلسطينيين صامدون في المدينة المقدسة وعموم فلسطين، ينتظرون الترجمة العملية لقرارات عربية، سبق وأن تم اتخاذها بالنسبة للمدينة المقدسة، وينتظرون تفعيل صندوقها الخاص.

فيما يقع على عاتق كل القيادات الروحية الإسلامية والمسيحية في العالم الإسلامي والعربي، وكذلك القيادات السياسية، أن تبادر لقرع الأجراس من جديد، عسى أن تتوالد التحركات الجدية العملية والملموسة، في الوقت الأخير الخطير الذي تعيشه المدينة المقدسة.

فكل من يتغنى بعروبة القدس، عليه أن يفعل شيئاً من أجل هذه العروبة، فالحفاظ على عروبة القدس لا يحتاج إلى خطابات، ولا يحتاج إلى بيانات شجب واستنكار، بل يحتاج عملاً ميدانياً على الأرض، لدعم صمود وبقاء المقدسيين فوق أرضهم، وإسناد مؤسساتهم بالدعم المادي الملموس والمباشر.

إنها قضية القدس والأقصى، والمسجد الأقصى وقبة الصخرة، وكنيسة القيامة، أرض الإسراء والمعراج، التي تنتظر فاتحها الجديد، في ذكرى تحريرها على يد الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي.

 

Email