الحزب الجمهوري الأميركي وحماية الأكاذيب

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقول نيل نيوهاوس، وهو أحد منظمي استفتاءات رومني: "إننا لن نسمح لمتقصي الحقائق بأن يملوا علينا حملتنا". وكان بعض المنظمات والمواقع المعنية بتقصي الحقائق، قد فندت ادعاءات ميت رومني وبول رايان بأن الرئيس الأميركي باراك أوباما أزال شرط العمل من قانون الرعاية الاجتماعية، واقتطع 716 مليار دولار من برنامج "ميديكير" الصحي، وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن رومني يتهم الرئيس أوباما "زورا" بإزالة شرط العمل.

وتصف صحيفة "يو إس ايه توداي" ادعاء حملة رومني، بأن أوباما "سرّب" المال من برنامج "ميديكير" ليدفع ثمن قانون الرعاية الصحية الفيدرالي، بأنه "خط هجوم زائف" دحضه بشكل مباشر وكبير الخبراء بشؤون التأمين في برنامج "ميديكير"، وخلصت الصحيفة إلى أنه "ليس هناك من يستولي على أموال "ميديكير". ورغم تلك التفنيدات، تواصل حملة رومني توجيه هذين الاتهامين.

وفي حين أن معظم الحملات السياسية تلجأ إلى المبالغة، وبعضها يشوه الحقائق، فإنه نادرا ما تلجأ حملة ما - إذا حدث ذلك أصلا - إلى أكاذيب من هذا القبيل، حتى بعد أن يتم إيضاح أنها أكاذيب.

ويفترض أن حملة رومني تواصل إطلاق هذه الادعاءات الكاذبة وغيرها لأنها فعالة، فهي تضع الناخبين المترددين سابقا في صف رومني. ولكن هذا يثير سؤالا أكثر جوهرية: كيف يمكن لهذه الادعاءات الكاذبة أن تظل فعالة، على الرغم من أن وسائل الإعلام أفقدتها مصداقيتها بشكل ساحق؟

الإجابة هي أن الحزب الجمهوري طور ثلاث وسائل، لتجاوز وسائل الإعلام الرئيسية ومتقصي الحقائق فيها.

والوسيلة الأولى هي ترديد الأكاذيب الكبيرة مرات عديدة في الإعلانات التلفزيونية، التي يتم تمويلها بجبل من أموال الحملة، إلى أن ينسى الجمهور (في حال عرف أصلا) أن وسائل الإعلام الرئيسية ومنظمات تقصي الحقائق التابعة لها، اكتشفت أنها أكاذيب.

والأموال هي نتيجة لسلسلة من أحكام المحاكم والتغييرات التنظيمية، بدءا من حكم المحكمة الأميركية العليا في قضية "المواطنون المتحدون"، ضد "لجنة الانتخابات الفيدرالية" في عام 2010. وقد جاء ربع الـ350 مليون دولار التي جمعتها لجان العمل السياسية حتى نهاية يوليو الماضي، من 10 متبرعين، وذلك وفقا لمركز السياسة المستجيبة، وهو مجموعة غير حزبية تتابع هذا النوع من الإنفاق.

 ويمول الشق الأكبر من تلك الأموال، عبر الإعلانات السلبية التي تستهدف الرئيس أوباما وغيره من الديمقراطيين.

ويجري جمع المزيد من مئات الملايين من قبل جماعات سياسية تتنكر في هيئة منظمات غير ربحية، مثل غرفة التجارة الأميركية. وبسبب ثغرة في أنظمة دائرة الإيرادات الداخلية تسمح لهذه الجهات المانحة بأن تبقى سرية، فإن الشركات الكبرى وبنوك وول ستريت تستطيع التبرع بالمبلغ الذي يحلو لها، دون حتى أن يعرف المساهمون فيها حجم ذلك المبلغ أو متلقيه.

والوسيلة الثانية، التي طورها الحزب الجمهوري لحماية أكاذيبه، هي التشكيك في وسائل الإعلام الرئيسية، من خلال التأكيد على أنها تدار من قبل "نخب ليبرالية" لا يمكن الوثوق بأنها تقول الحقيقة.

وفي إطار ما بات يشكل خط هجوم جمهوريا نموذجيا، قال نيوت غينغريتش في نقاش جمهوري في يناير الماضي: "لقد سئمت من حماية وسائل الإعلام النخبوية لباراك أوباما، من خلال مهاجمة الجمهوريين".

وبلا شك، فإن وسائل الإعلام الرئيسية لم تكن على صواب دائما. فهي صدقت، في البداية، ادعاء إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش بوجود "أسلحة دمار شامل" في العراق. ولكنها، على الأقل، تلتزم بالمعايير المهنية التي تفصل الحقيقة عن الخيال، وتبحث عن الحقائق الموضوعية، وتصحح الأخطاء، وتنشر الحقيقة.

وتتمثل الوسيلة الثالثة التي يستخدمها الحزب الجمهوري لحماية نفسه، في منافذه الإعلامية الخاصة، وعلى رأسها شبكة "فوكس نيوز"، والمذيع راش ليمبو، ومقلدوه ممن يصيحون عبر الراديو، ودار "ريغنري" للنشر، وصفحة مقالات الرأي في صحيفة "وول ستريت جورنال"، فضلا عن عالم التدوين اليميني. وحتى لو لم تقم هذه المنافذ بنشر الأكاذيب بصورة مباشرة، فإنها تستطيع على الأقل إشاعة الشك حول كل ما هو صحيح.

وتعمل هذه الآليات الثلاث معا، على إنشاء عالم جمهوري مواز ذي بعد غرائبي يمكن فيه تأكيد أي شيء، ويستطيع فيه منظمو الاستفتاءات والمستشارون السياسيون، تلفيق أية أكاذيب من شأنها أن تدعم انتخاب مرشحهم، وتعتبر فيه منظمات تقصي الحقائق غير هامة وتطفلية بدرجة موازية للحقيقة.

أما ما إذا كان هذا كله يساعد الحزب الجمهوري في عام 2012، فإنه يقل أهمية عن الخطر الأكبر الذي يشكله بالنسبة لأميركا، فلا يمكن للديمقراطية أن تزدهر في مكان تفقد فيه الحقيقة أهميتها. وفي المقابل، فإن التاريخ يعلمنا أن هذا هو المجال الذي يترسخ فيه الديماغوجيون.

لقد قررت حملة رومني عدم السماح لمتقصي الحقائق بالإملاء عليها، ولكن مجتمعا بلا محكمين موثوقين يحددون ما هو صحيح وما هو زائف، يكون عرضة لكل كذبة يمكن تخيلها.

Email