الانزياحات في إسرائيل والسبات العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المؤكد أن المجتمع الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية وداخل إسرائيل، بات اليوم أكثر تطرفاً ويمينية من الماضي القريب، بحيث أصبحت أجزاء كبيرة منه ترضى عن حزب كحزب المستوطنين من اليهود الروس، الذي ينضح بفجاجة شعاراته وممارساته، ومواقفه بالغة التطرف من المسائل المطروحة في المنطقة وما يتعلق منها بالقضية الفلسطينية.

فحزب الصهيوني المتطرف أفيغدور ليبرمان المسمى "اسرائيل بيتنا"، بات اليوم حزباً فاشياً بامتياز وذا عقلية وتفكير شموليين، في مجتمع يزداد يوما بعد يوم تمزقاً وتعدداً في جذوره القومية المتأتية من كل بقاع المعمورة.

حزب ليبرمان، يمثل اليوم واجهة عنصرية ساطعة في سماء الدولة العبرية الصهيونية، فيما يتربع قائد هذا الحزب في الموقع الأكثر أهمية في صناعة القرار في إسرائيل، كوزير للخارجية في حكومة ائتلافية يسيطر عليها تحالف قوى اليمين واليمين المتطرف بقيادة حزب الليكود الوريث الوحيد لحزب حيروت الصهيوني، الذي أسسه المتطرف فلاديمير جابوتنسكي (اسمه الحقيقي جوزيف ترمبلدور)، وقد أنجب عتاة المتطرفين كمناحيم بيغن والمجرم القاتل اسحق شامير.

ومن المؤكد أيضاً، أن الاصطفافات والانزياحات داخل إسرائيل تسير على طرفي نقيض، فقوى اليمين الصهيوني بشقيه التوراتي والقومي العقائدي، تتوسع في حضورها وفي نفوذها وسطوتها داخل المجتمع الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية، فيما تنزاح الأقلية المتشكلة من أحزاب ما يسمى "اليسار الصهيوني"، نحو ضرورة البحث عن حلول سياسية للصراع العربي والفلسطيني/ الصهيوني، لكنها في الوقت نفسه يضمر حضورها وفعلها وتأثيرها، وتقتصر في مجموعها على فئات ومجموعات من الأنتلجنسيا اليهودية التي لاحول لها ولاقوة في مجتمع بات مشبعاً بروح الغطرسة، ومؤمناً حتى النخاع بمنطق القوة وحده في عصر السوبرمان الأميركي.

وأمام هذا المشهد، فإن التقديرات التي قد تتحدث عن احتمالات للتغيير داخل إسرائيل نحو قبول حكومة نتنياهو أو الحكومة التي ستخلفها، بقرارات الشرعية الدولية أو المقاربة معها بالنسبة للصراع مع العرب والفلسطينيين، لا تعدو كونها تقديرات هوائية لا سند لها على أرض الواقع في ظل استفحال تلك الاصطفافات اليمينية التلمودية داخل بنى المجتمع الصهيوني، وبقاء الحالة العربية على ما هي عليه حيث روح الاستنجاد واللهاث وراء سراب مواقف دولية لا تتغير.

إن العامل الوحيد والحقيقي القادر على إحداث التغيير في السياسات الإسرائيلية تجاه المقاربة مع الشرعية الدولية، ولي عنق قوى المجتمع الصهيوني ودفعها لإعادة النظر في مواقفها وإجبارها على تغييرها، يتمثل في الرد العربي المطلوب، الجدي والحقيقي، على سلوك وسياسات إسرائيل ومن ورائها، وتحديداً الولايات المتحدة التي لا ترى سبباً لحجبها غطاء الدعم السياسي والاقتصادي عن إسرائيل، ما دام النظام الرسمي العربي صامتاً، أو غير مبالٍ، أو غير قادر حتى الآن على صياغة رؤية سياسية عربية تتجاوز المبادرة العربية التي قبرها ودفنها ورفضها الجنرال الصهيوني أرئيل شارون، منذ لحظات ولادتها الأولى عام 2002 في قمة بيروت العربية.

وللأسف، فقد تحولت تلك المبادرة، إلى رؤية عربية وحيدة دون بدائل فعّالة، وتفتقر لعنصر هام هو عنصر القوة بمعناها الشامل، فأصبحت أشبه بمناشدة أخلاقية لإسرائيل والمجتمع الدولي، خصوصاً الغرب منه، في وقت أمسى فيه العالم بأسره لا يستمع ولا يتسجيب إلا للغة المصالح، التي غيبها العرب على مدار سنوات الصراع منذ بدايات القرن العشرين، فيما تتمسك بها الولايات المتحدة والغرب إمساكاً شديداً حتى الآن.

وبالعودة للموضوع الأساس، فإن اتساع حضور ونفوذ قوى اليمين الصهيوني العقائدي داخل إسرائيل يتم والعرب في حالة سبات، بينما تستوجب تلك التحولات من كل عاقل وكل ذي بصيرة في بلادنا العربية، التفكير جدياً في مآلات وتوقعات المرحلة القادمة، وتقديم رؤية استراتيجية لإعادة بناء السياسات العربية الناضجة، لمواجهة استحقاقات مرحلة قادمة ستكون فيها العظام العربية على مهراس المصالح الكونية.

وفي هذا المقام، فإن الصراع مع إسرائيل يفترض أن يتصدر الأولويات في السياسة العربية، لا أن يتحول كما الآن إلى موضوع ثانوي لا أهمية له، في ظل التطاحن العربي المذهل من الحروب السياسية بين مختلف بلداننا، التي اختلط فيها الشتاء بالربيع والقمح بالزوان والصالح بالطالح، وسالت الدماء وما زالت أنهاراً هنا وهناك، في وقت ترقص فيه إسرائيل فرحاً وابتهاجاً جراء هذه الحالة العربية المأسوية.

إن الرد العربي على ما يجري في إسرائيل من طغيان لسياسات اليمين، ومن ترجمات مباشرة لتلك السياسات بتهويد متسارع أكل الأخضر واليابس في القدس ومحيطها وداخل أحيائها العربية الإسلامية والمسيحية، لا يكون بالصمت المهيمن على الساحة العربية الآن عملياً وواقعياً، ولا يكون باللغة الطرية الناعمة والمخملية التي يطلقها بعض العرب من حين لآخر تجاه ممارسات إسرائيل، بل يكون عبر إعادة بناء استراتيجية عربية جدية وفعّالة، وقبل كل شيء بإعادة النظر في ما يجري في بلادنا، حيث غطس الجميع في "مستنقع" وأزمات وأوحال لم يعد يميز فيها بين الربيع والشتاء.

Email