سبق أن كتبت عن الرجل الشهير عبد الله فيلبي، الذي أصبح مستشاراً للملك السعودي الراحل سعود بن عبد العزيز آل سعود. ولقد جمعني بفيلبي ما لا يقل عن ثلاثة لقاءات، أحدها في فندق "دورتشستر" في لندن، وآخر في حفلة في الكرملين في موسكو، ولقاء ثالث في القاهرة عندما أعطاني صورة له، وكتبت عنه عمودا صحافيا في الصحيفة الأسبوعية "ذا سفينكس".
وكان عبد الله فيلبي قد طلب مني خلال وجودنا سويا في لندن، إعطاءه خاتما لكي نتمكن من ترتيب غداء في النادي اللامع الذي ينتمي إليه "أثينيوم". ولقد أقلعت عن الاتصال به بناء على طلبه، ولطالما شعرت بالندم على ذلك. كنت مدركا لواقع أن لديه ابنا، إلا أنني لم أكن أعرف عنه شيئا، ولم يسبق أن التقيت به. ثم في يوم من الأيام في ستينات القرن الماضي، فيما كنت أكسب معيشتي من عملي كمستشار، تلقيت اتصالا هاتفيا من أحد الأشخاص يدعى جيفري كيتنغ، وطلب مني أن أزوره في شقته في "كينغز يارد" التي كانت قاب قوسين خلف مكتبي.
قرعت الجرس لأجد بعد ذلك أن الباب مفتوح، فولجت إلى داخل الشقة، وسمعت صوتا من الطرف الآخر لممر طويل يوجهني إلى حيث يقع الحمام، ويطلب مني "أن أجلس". كان جيفري كيتنغ يرقد في الحمام، شرح لي أنه مسؤول العلاقات العامة لشركة "بريتش بتروليوم".
وأن الشركة ترغب في تقصي احتمال إقامة محطة إذاعية تجارية عربية، تحل محل محطة "الشرق الأدنى" التي كانت تعمل من قبرص، والتي كانت قد فقدت الموضوعية، عندما جرى استخدامها في دعم الغزو الثلاثي الإسرائيلي ـ البريطاني ـ الفرنسي الكارثي على مصر.
ثم قال لي كيتنغ إنه يود لو أنني أعطي اقتراحه بعض الاعتبار، وربما الخروج ببعض الاقتراحات. ثم اقترح أن نتوجه إلى غرفة الجلوس حيث يمكننا تناول بعض الشراب، وأن نتحدث بأشياء كثيرة. وفيما كنت أتخذ لنفسي مقعدا في غرفة الجلوس، لاحظت أن الجدران مغطاة بصور للقائد العسكري الشهير "مونتغمري".
وأنها في معظمها تظهره بصحبة مضيفي. وكل الصور كانت مأخوذة في الصحراء الغربية، وعلمت فيما بعد أن جيفري كيتنغ كان مساعد مونتغمري الشخصي خلال مجمل الحملة على إفريقيا، وهي حملة شهدت أول هزيمة تتلقاها القوات الألمانية تحت إمرة الجنرال رومل.
وبدا المشروع جذابا بالنسبة لي، خصوصا احتمال أن تكون شركة "بريش بتروليوم" مستعدة لأن تدفع لي مبلغا كبيرا من المال، مقابل العمل الذي سأوديه لها. وأثناء ذلك، دعيت لإجراء اجتماع إضافي مع الرئيس المسؤول عن كيتنغ في مكاتب الشركة. وكان الوقت يمضي دون أن أتمكن من ربط كيتنغ بأي التزام محدد، فقررت أن أغتنم الفرصة وأن أحاول التعامل مباشرة مع رئيسه المباشر.
وهذا ما فعلته بنجاح وجرى التوصل إلى اتفاق خطي، وتم توقيعه من الطرفين، ويقضي بإعطائي دفعة بقيمة 3 آلاف جنيه إسترليني، وهو يعد مبلغا كبيرا من المال في تلك الأيام. وعرفت بعدها أن كيتنغ كان غاضبا بعد عودته إلى لندن، بسبب عقد الصفقة من وراء ظهره.
وحدث أنني التقيت بالصدفة مع مايكل كوبت من "نادي السيارات الملكي"، ووافقت على توظيفه مقابل أجر متواضع، بعد أن شعرت بالحاجة إلى من يساعدني في المشروع. سافرنا إلى بيروت معا، وهناك تم اتخاذ قرار يقضي بانتقال مايكل إلى عدن، وهو مكان لم يكن لدي رغبة في زيارته. وفي الأمسية التي سبقت مغادرته بيروت، أفاد مايكل بأنه يود أن يمر بشقته القديمة لجمع بعض حاجياته، وأوضح لي أنه أجرها إلى أحد الأشخاص ويدعى كيم فيلبي، نجل عبد الله فيلبي، واقترح أن نقوم ثلاثتنا بقضاء الأمسية معا.
وكانت الأمسية مع كيم فيلبي أمسية طويلة، وهو المعروف عنه أنه جاسوس، وفي الأمسية كنت أنا وكيم على خير ما يرام، وتشاركنا عدة أفكار عن العالم العربي وسياسات إنجلترا نحوه.
وما أثار دهشتي لاحقا، عندما هرب إلى روسيا بعد عدة أسابيع، هو أن سبب نجاحه في تجنب "اكتشاف" أنه جاسوس، لا بد أنه يعود في جانب كبير منه، إلى اتخاذه مواقف لم تكن مخالفة للحقيقة، أي مواقف مناهضة لسياسة بريطانيا بشكل صارخ.
ومع ذلك، كنت أنا وكيم على علاقة جيدة، وبدا أننا نتشارك وجهات النظر نفسها عن العالم العربي، ووجهات النظر تلك تضمنت مشاعر مناهضة لسياسة بريطانيا وأميركا. لكنني كنت بعيدا كليا عن التعاطف مع الذين يعبرون عن إعجابهم بذلك الشخص الذي كان ناجحا جدا لفترة طويلة في خيانة بلاده، وفي إرسال العديد من أبناء وطنه إلى حتفهم، من خلال المعلومات التي كان يكتسبها خلال خدمته في الاستخبارات البريطانية، ومن ثم يمررها إلى أسياده الروس. والمرء لا يمكنه إلا أن يحمل مشاعر الاحتقار لشخص أرسل أناسا إلى حتفهم بدم بارد.
وكان قد مضى أسبوع أو أقل قبل أن ينقل كيم فيلبي، أحد أكثر الجواسيس العاملين مع الروس نجاحا، سرا خارج بيروت إلى مكان آمن في موسكو، حيث علمت أنه عاش حياة من الترف إلى أن توفي.