عادل إمام.. في السجن

ت + ت - الحجم الطبيعي

وسط تطورات بالغة الأهمية في تحديد مستقبل مصر سواء في ما يتعلق بمعركة الرئاسة والدستور الجديد والصراع الذي يتفجر حول الهوية، أو في مفاجأة إنهاء عقد توريد الغاز لاسرائيل وانعكاساته على العلاقات المتوترة بين الجانبين منذ اندلاع الثورة..

 وسط هذا كله يفاجأ المثقفون والمبدعون في مصر بمعركة جديدة تفرض عليهم، ويجدون أنفسهم بعد عام من الثورة التي رفعت شعار الحرية وكرامة الإنسان مهددين بتكميم الأفواه ومصادرة الحريات وفتح زنازين السجون لمن يجرؤ على ارتكاب فعل «الإبداع»!!.

المعركة بدأت من شهور، ولكن فصلاً جديداً ومثيراً يكتب فيها بعد صدور الحكم بحبس الفنان عادل إمام ثلاثة شهور، ورفض المعارضة القانونية التي قدمها في الحكم الذي يرى المثقفون والمبدعون أنه يفتح أبواباً ظلت موصدة منذ العصور الوسطي، ويعيد للأذهان ذكرى محاكم التفتيش، أو هجمة المكارثية في أميركا منتصف القرن الماضي، ويطلق الخطر بفاشية جديدة تصادر الحريات وتطلق دعاوى التكفير على كل من يخالفها في الرأي.

القضية ليست قصة عادل إمام، بل الخطر الذي يواجهه المثقفون والمبدعون في مناخ معادٍ للحرية. ولهذا تضامنوا معا منذ شهور للدفاع عن الحريات، ولهذا يتضامنون اليوم مع عادل إمام رغم ان الكثيرين منهم يختلفون معه في مواقفه واختياراته السياسية خاصة في الفترة الأخيرة.

عادل إمام تم اتهامه من محامٍ غير معروف بأنه قام بازدراء الأديان والسخرية من الزي الإسلامي في أفلام ومسرحيات بعضها يعود لثلاثين عاماً مضت !! وبغض النظر ان هذا الأعمال تمت مراقبتها، وأنها كانت تهاجم طيور الظلام من الذين يمارسون الإرهاب باسم الدين الحنيف دفاعاً عن صحيح الإسلام، وبغض النظر عن ان الدعوة في بعضها مثل «حسن ومرقص» كانت للوحدة الوطنية واحترام الأديان لا السخرية منها.

وبغض النظر عن أن الملايين في مصر والعالم العربي قد فهمت الرسالة.. فإن الحكم قد صدر بالإدانة، وبقي طريق استئناف الحكم الذي يأمل أن ينصف قضاء مصر قبل أي شئ آخر، وهو القضاء الذي كان على الدوام نصيراً للحرية ومقدراً لرسالة الفن ولدور الثقافة والمثقفين!.

وليس هذا أول حكم على عادل إمام، فقد صدر ضده حكم مماثل بالحبس قبل ثلاثين عاماً بسبب فيلم «الافوكاتو» تم الغاؤه في الدرجة الأعلى من التقاضي. وكان صاحب الحكم بحبس عادل إمام يومها هو «مرتضى منصور» الذي ترك القضاء بعد ذلك إلى المحاماة والسياسة والهارب حالياً من أمر استدعاء أصدرته المحكمة التي تنظر قضية «موقعة الجمل» أثناء الثورة باعتباره أحد المتهمين الرئيسين فيها.

الموقف الآن يختلف جملة وتفصيلاً عما كان عليه منذ ثلاثين عاما. فبعد عادل إمام، بدأت المحاكمات تطال العديد من المبدعين وكانت الدفعة الأولى بعده تضم خمسة منهم السيناريست وحيد حامد والمخرج الكبير محمد فاضل.. والبقية تأتي!!.

وهناك هجمة من بعض التيارات التي تتحدث باسم الإسلام على حرية الرأي والتعبير. وقبل شهور كان هناك من قيادات الجماعة السلفية من يطالب بمصادرة ما أبدعه الراحل العظيم نجيب محفوظ، متهماً إياه بالخروج على الدين في روايات مثل «أولاد حارتنا» وبالترويج للمخدرات والممنوعات في باقي الروايات!! وبعدها توالت التهديدات من قيادات في «الإخوان المسلمين».

وغيرها من التنظيمات التي تتحدث باسم الإسلام لوضع قيود على حرية التعبير والرأي، ثم كان هجوم مرشد الإخوان الدكتور بديع على الصحافيين والإعلاميين ووصفهم بأنهم «سحرة فرعون»، وحسناً فعل الرجل بعد ذلك بالتراجع عن هذه التصريحات.

وأمام البرلمان الآن مشروع قانون يفرض على السينما وقنوات التليفزيون الاحتشام والالتزام بمكارم الأخلاق(!!) في ما تعرضه على الشاشات الصغيرة والكبيرة. والأمر هنا لا يتعلق بالحاضر والمستقبل فقط بل يتم إذا تم إقراره بأثر رجعي، فيجري «تطهير» الأفلام والمسلسلات القديمة من أي مشهد ساخن أو«نص نص».

ويتم حذف أي شئ لا يتفق مع »مكارم الأخلاق» بدءاً من مشهد بالمايوه ولو فيلم أميركي، إلى أي أغنية عاطفية حتى لو كانت في مستوى أغنية أم كلثوم »إنت عمري» التي شن عليها أحد مشاهير الدعاة عند ظهورها حملة شعواء.. ليس فقط من باب أن الغناء حرام عند بعض الفرق المتشددة، ولكن أيضاً لأن أم كلثوم تقول في الاغنية «بعيد بعيد وحدينا» وهو ما فسره الداعيه بأنه دعوة لخلوة غير شرعية وفي غياب «المحرم»!!.

في ظل هذا المناخ تبدو المخاوف مشروعة، خاصة حين تنهال الاتهامات على كل من يؤمن بالديموقراطية أو الليبرالية بأنه كافر وملحد!! وحين تستمر المراوغات في قضية الدستور بهدف فرض هيمنة تيار واحد على اللجنة التي ستقوم بوضعه.

وحين يتراجع الإخوان المسلمون عن كل وعودهم السابقة فيسعون لموقع رئاسة الدولة، وللهيمنة على السلطة التنفيذية، بعد السيطرة على البرلمان الذي يحاول فرض أكبر عدد من القوانين في أسرع وقت لتغيير كيان الدولة وهويتها الوطنية، قبل أن يصدر الحكم المنتظر ببطلان انتخاباته.

والإحساس بالخطر لا يقتصر فقط على جماعة المثقفين والمبدعين والفنانين وأصحاب الرأي، وإنما يصل للمجتمع كله ولمؤسساته الحارسة لهوية مصر الوطنية ولعروبتها المنفتحة وإسلامها المعتدل. وها هو الأزهر الشريف بكل مكانتة وتاريخه العظيم يدرك حجم المخاطر فيصدر وثيقته بالغة الأهمية عن حرية الرأي والتعبير.. ولكن المناورات تستمر، وأصحاب الهجمة الظلامية يرفضون حتى الآن- الالتزام بأحكام الوثيقة واعتبارها أساساً في وضع الدستور، ويشنون هجوماً مضاداً ضد مؤسسة الأزهر التي قدمت على مدى تاريخها مثالاً باهراً في احترام التعددية وحرية الرأي والجنوح للوسطية والاعتدال.

لهذا يدرك الألوف من المثقفين والمبدعين والفنانين وأصحاب الرأي أنهم أمام محاولة جادة لإقامة فاشية جديدة لا يمكن السماح بإقامتها في مصر مهما كانت التضحيات. ويدركون أن القضية ليست حبس فنان تختلف أو تتفق مع ما يقدمه، ولكنها قضية أن تنتصر الحرية أو يتم قمعها. وانه إذا نجحت المحاولة وانتصر خفافيش الظلام في هذه الجولة، فعلى كل المثقفين والمبدعين أن ينتظروا دورهم.

وأن يستعدوا للمحاكمة على «جرائم» ارتكبوها على مر السنين.. شعراً ونثراً، وفي المسرح والسينما، وفي أدب بلغ العالمية، وثقافة نشرت الاستنارة وقضت على خفافيش الظلام التي تقود اليوم لتسرق الثورة وتصادر الحرية وتحاول أن تعيد عصور محاكم التفتيش!!.

 

Email